عن أبي بصير قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: "إنّ الحُرّ حُرّ على جميع أحواله، إن نابته نائبة صبر لها، وإن تداكّت عليه المصائب لم تكسره، وإن أُسر وقُهر، واستُبْدِل باليسر عسراً، كما كان يوسف الصدّيق الأمين، لم يُضْرِر حرّيته أن استُعبد وقُهر وأُسر، ولم تُضرِره ظلمة الجبّ ووحشته وما ناله أن منّ الله عليه فجعل الجبّار العاتي له عبداً بعد إذ كان (له) مالكاً، فأرسله ورحم به أمّةً وكذلك الصبر يُعقبُ خيراً فاصبروا ووطِّنوا أنفسكم على الصبر تؤجروا"1.
معنى الصبر:
الصبر هو الامتناع عن الشكوى على الجزع الكامن. يقول العارف المعروف كمال الدِّين عبد الرزّاق الكاشاني: "إنّ المقصود من الامتناع عن الشكوى، هو الشكوى إلى المخلوق، وأمّا الشكوى عند الحقّ المتعالي وإظهار الجزع والفزع أمام قدسيّته فلا يتنافى مع الصبر. كما اشتكى النبيّ أيّوب عند الحقّ سبحانه قائلاً: ﴿أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ﴾2، رغم أنّ الله تعالى أثنى عليه بقوله: ﴿إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ﴾3، وقال النبيّ يعقوب ﴿إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللّهِ﴾4، مع أنّه كان من الصابرين".
ويبدو من تراجم حياة الأنبياء العظام والأئمّة المعصومين صلوات الله عليهم أجمعين رغم أنّ مقاماتهم كانت أرفع من مقام الصبر ومقام الرضا والتسليم،أنّهم لم يمتنعوا عن الدعاء والتضرُّع والعجز أمام المعبود، وكانوا يسألون حاجاتهم من الحقّ سبحانه.
إنّ تذكُّر الحقّ جلّ وعلا والخلوة والمناجاة مع المحبوب وإظهار العبودية والذلّ أمام عظمة الكامل المطلق، غاية آمال العارفين وثمرة سلوك السالكين.
مقام الصبر:
إنّ الصبر يُعتبر من مقامات المتوسّطين، لأنّ النفس ما دامت تكره المصائب والبليات، وتجزع منها، فهذا يعني أنّ مقام المعرفة ناقص. كما أنّ مقام الرضا بالقضاء، والابتهاج من إقبال المصائب عليه، مقام أرقى من مقام الصبر، رغم كون مقام الرضا من مقام المتوسّطين أيضاً.
فالإنسان إذا أدرك حقيقة العبادة وآمن بصورها البهية في الآخرة، وكذلك آمن بالصور الموحشة للمعاصي، لما كان للصبر على الطاعة أو عن المعصية معنى. بل الأمر يغدو معكوساً، فترك العبادة عنده أو فعل المعصية هو الأمر المكروه الّذي يتسبّب بجزعه النفسي، جزع أكثر من جزع الصابرين في البليات والمصائب. وما ورد في أئمة الهدى أو الأنبياء العظام من نعتهم بالصبر، فمن المحتمل أنّه من الصبر على الآلام الجسدية الّتي تحصل حسب طبيعة الإنسان ، أو هو من الصبر على فراق الأحبّة وهو حينئذٍ من المقامات الكبيرة للمحبّين.
وأمّا الصبر على الطاعات أو عن المعاصي أو المصائب عدا ما ذكرنا من الآلام الجسدية فلا معنى له في حقّهم ولا في حقّ شيعتهم.
درجات الصبر:
إنّ المفهوم من الأحاديث الشريفة أنّ للصبر درجات، ويختلف الأجر والثواب بحسب الدرجة كما في الرواية عن مولى المتّقين الإمام أمير المؤمنين عليه السلام:
"قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الصبر ثلاثة: صبر عند المصيبة وصبر على الطاعة وصبر عن المعصية. فمن صبر على المصيبة حتّى يردّها بحسن عزائها، كتب الله له ثلاثمائة درجة ما بين الدرجة إلى الدرجة كما بين السماء والأرض، ومن صبر على الطاعة كتب الله له ستمائة درجة ما بين الدرجة إلى الدرجة كما بين تخوم الأرض إلى العرش، ومن صبر عن المعصية كتب الله له تسعمائة درجة ما بين الدرجة إلى الدرجة كما بين تخوم الأرض إلى منتهى العرش"5.
ويُفهم من هذا الحديث أنّ الصبر عن المعصية أفضل من كلّ مراتب الصبر حيث تكون درجاته أكثر والفواصل بين درجاته كبيرة جدّاً. ويُفهم أيضاً أنّ مساحة الجنّة أوسع ممّا في أوهامنا نحن المحجوبين والمقيّدين. ولعلّ ما ورد في تحديد الجنّة من قوله تعالى: ﴿عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ﴾6 عائد إلى جنّة الأعمال. وما ورد في الحديث "جنّة الأخلاق"، والمقياس في جنّة الأخلاق، قوّة الإرادة وكمالها، وهي غير محدودة بحدّ.
نتائج الصبر:
نُقل عن العبد الصالح عليّ بن طاووس قدّس الله نفسه أنّه كان يحتفل في كلّ عام يوم ذكرى بلوغه للتكليف الشرعي، ويتّخذه عيداً وينثر الهدايا على الأصدقاء والأهل، وذلك لما شرّفه الله سبحانه وتعالى في ذلك اليوم بالإذن في فعل العبادات والطاعات. فهل فعل الطاعات يعدّ لهذا الروحاني من الصبر على المكروهات الكامنة في أعماق الإنسان؟ أين نحن من هؤلاء العبّاد المنقادون للحقّ تبارك وتعالى؟
وفي رواية عن الإمام الصادق عليه السلام: "قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سيأتي على الناس زمان لا يُنال فيه المُلك إلّا بالقتل والتجبُّر، ولا الغنى إلّا بالغضب والبخل، ولا المحبّة إلّا باستخراج الدِّين وإتباع الهوى، فمن أدرك ذلك الزمان فصبر على الفقر وهو يقدر على الغنى وصبر على البِغضة وهو يقدر على المحبة وصبر على الذلّ وهو يقدر على العزّ، أتاه الله ثواب خمسين صدّيقاً ممّن صدّق بي"7.
إنّ للصبر نتائج كثيرة فهو مفتاح أبواب السعادات، وباعث للنجاة من المهالك، يهوّن المصائب ويخفّف الصعاب، ويقوّي العزم والإرادة، ويبعث على استقلالية مملكة الروح.
إنّ من نتائج الصبر ترويض النفس وتربيتها،، فإذا صبر الإنسان حيناً من الوقت على مصائب الدهر، وعلى مشاق العبادات والمناسك، وعلى مرارة ترك الملذّات النفسية امتثالاً لأوامر وليّ النعم، وتحمّل الصعاب مهما كانت شديدة، تروّضت النفس شيئاً فشيئاً واعتادت وتخلّت عن طغيانها وتذلّلت الصعاب وحصلت للنفس صفات راسخة نورية، بها يتجاوز الإنسان مقام الصبر ليبلغ المقامات الأخرى الشامخة.
ولكلّ درجة من درجات الصبر فائدة خاصّة: فالصبر على المعصية يبعث على تقوى النفس، والصبر على الطاعة يسبّب الاستيناس بالحقّ عز وجل، والصبر على البلايا يوجب الرضا بالقضاء الإلهي. وكلّ ذلك من المقامات الشامخة لأهل الإيمان العارفين بالله سبحانه وتعالى.
وللصبر في الآخرة ثواب جزيل وأجر جميل، كما ورد في الحديث:"وطّنوا أنفسكم على الصبر تؤجروا".
وورد في الحديث الشريف:"من ابتلي من المؤمنين ببلاء فصبر عليه كان له مثل أجر ألف شهيد"8.
ويتجسّد الصبر في الآخرة بصورة بهية شريفة، ففي الرواية عن الصادق عليه السلام: "إذا دخل المؤمن في قبره كانت الصلاة عن يمينه والزكاة عن يساره والبرّ مطلّ عليه ويتنحّى الصبر ناحية، فإذا دخل عليه الملكان اللذان يليان مساءلته قال الصبر للصلاة والزكاة والبرّ: دونكم صاحبكم فإن عجزتم منه فأنا دونه"9. وأما الفزع والجزع فمضافاً إلى أنّه بنفسه عيب، وكاشف عن الضعف في النفس، يجعل الإنسان مضطّرباً والإرادة ضعيفة والعقل موهوناً.
1- الكافي، ج 2، ص 89.
2- سورة ص، الآية: 41.
3- سورة ص، الآية: 44.
4- سورة يوسف، الآية: 86.
5- الكافي، ج 2، ص 91.
6- سورة آل عمران، الآية: 133.
7- بحار الأنوار، ج67، ص183.
8- الكافي، ج 2، ص 92.
9- م.ن، ج 2، ص 90.