عن الإمام الباقر عليه السلام: "مكتوب في التوراة الّتي لم تُغيّر أنّ موسى عليه السلام سأل ربّه فقال: يا ربّ، أقريب أنت منّي فأُناجيك، أم بعيد فأُناديك؟ فأوحى الله عزّ وجل إليه: يا موسى أنا جليس من ذكرني. فقال موسى: فمن في سترك يوم لا ستر إلّا سترك. فقال: الذين يذكرونني فأذكرهم ويتحابّون فيّ فأُحبّهم فأولئك الذين إذا أردت أن أصيب أهل الأرض بسوءٍ ذكرتهم فدفعت عنهم بهم"1.
إحاطة الله تعالى:
يذكر العلّامة المحقّق المجلسي رضوان الله تعالى عليه في شرح الحديث السابق عن الإمام الباقر عليه السلام أنّ السبب بالسؤال عن آداب الدعاء هو أنّني إذا نظرت إليك فأنت أقرب من كلّ قريب وإذا نظرت إلى نفسي أجدني في غاية البعد عنك، فلا أدري في دعائي أنظر إلى حالي أو إلى حالك؟2.
ومن المحتمل أنّ النبيّ موسى عليه السلام في الحديث المذكور يعرض عجزه عن كيفية دعائه لله تعالى فيقول: "إلهي أنت منزّه من الاتّصاف بالقرب والبعد، فأنا متردّد لا أجد دعاءً يليق بعظمتك وجلالك، فاسمح لي أن أُناديك وعلّمني كيفية ندائك واهدني إلى ما يتناسب ومقام قدسك في هذا المجال".
والسبب في التردُّد أنّ الله تعالى له إحاطة وقيمومية، وسعة وجودية تعمّ جميع دائرة الوجود، وساحته المقدّسة تتنزّه عن القرب والبعد الحسّيين والمعنويين، لأنّ ذلك يستلزم نوعاً من التحديد والتشبيه، والحقّ المتعالي منزّه عن ذلك. وما ورد في بعض الآيات الشريفة من الكتاب الإلهي الكريم من توصيف الحقّ المتعالي بالقرب هو من باب المجاز والإستعارة.
كقوله تعالى: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ﴾3.
وقوله عزّ من قائل: ﴿وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ﴾4.
خصائص ذكر الله تعالى:
يستفاد من هذا الحديث الشريف أنّ لذكر الله تعالى خصائص، أهمّ هذه الخصائص:
- إنّ ذكر العبد لله، يبعث على ذكر الله لعبده وهذا أهمّ الخصائص، وهناك روايات أخرى تشير إلى هذا الأمر، ويقابل هذا الذكر النسيان الّذي قال سبحانه وتعالى عن الناسي في القرآن: ﴿كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى﴾5.
فكما أنّ نسيان الآيات والعمى الباطني عن رؤية مظاهر جمال الحقّ وجلاله يسبّب العمى في العالَم الآخر، يكون التذكُّر للآيات والأسماء والصفات وتذكُّر الحقّ سبحانه وجماله وجلاله باعثاً على حدّة في البصيرة وإزاحة للحجب بقدر قوّة التذكُّر ونورانيّته.
- ومن خصائص الذكر أيضاً أنّ الله سبحانه وتعالى يرفع لكرامتهم العذاب عن عباده، فما دام الذاكرون أحياء بين العباد لا يُنزل الله سبحانه العذاب على الناس.
الفرق بين مقام التفكُّر والتذكُّر:
التفكُّر هو مرحلة البحث عن المحبوب وطلبه، وأمّا التذكُّر فهو الوصول إلى المطلوب والتعرُّف على الحقّ عز وجل، يقول بعض العرفاء: "التذكُّر فوق التفكُّر فإنّ التفكُّر طلب والتذكُّر وجود"، فمادام الإنسان يطلب ويبحث يكون محجوباً عن مطلوبه وعندما يصل إلى محبوبه يتحرّر من عناء البحث والتفتيش، وبذلك يتّضح أنّ التذكُّر هو من نتائج التفكُّر.
كلّما كان التفكُّر قويّاً وكاملاً، ستكون نتيجته وهي التذكُّر أقوى وأكمل، حتّى يوصل التفكُّر الإنسان إلى التذكُّر التّام للمعبود، وهذا النوع من التفكُّر لا تُقاس فضيلته بأيّ عمل آخر.
صحيح أنّ العبادة أيضاً توصل إلى التذكُّر، ولكنّ التفكُّر يختصر الطريق، ففي الأحاديث الشريفة أنّ تفكُّر ساعة أفضل من عبادة سنة أو ستين أو حتّى سبعين عاماً. فلعلّ تفكُّر ساعة واحدة يفتح على الإنسان أبواباً من المعارف لا تفتحها عبادة سبعين سنة، أو أنّ في تفكُّر ساعة واحدة تذكُّر للإنسان بالمبدأ سبحانه ما لا يحصل خلال فترة سنين عديدة من العناء والجهد.
التذكُّر ضروريّ لجميع الناس:
إنّ تذكُّر الحبيب سبحانه، والتفكُّر فيه دائماً، يثمر نتائج كثيرة لكافة طبقات الناس.
أمّا أولياء الله تعالى الكاملون، فإنّ تذكُّر الحبيب سبحانه غاية آمالهم، وفي ظلّ التذكُّر يبلغون جمال هذا الحبيب، هنيئاً لهم. وأمّا عموم الناس والمتوسّطون منهم، فهو أفضل مصلح للأخلاق والسلوك وللظاهر والباطن.
إذا عاش الإنسان مع الحقّ سبحانه في جميع الأحوال، لأحجم عن الأمور الّتي تُسخطه سبحانه، وردع نفسه عن الطغيان. إنّ المشاكل والمصائب الّتي تدفعنا إليها النفس الأمّارة والشيطان الرجيم قد نشأت بسبب الغفلة عن ذكر الله وعذابه وعقابه.
إنّ الغفلة تضاعف كدورة القلب وتمكّن النفس والشيطان من التحكُّم في الإنسان وتُسبِّب زيادة المفاسد على مرّ الأيّام. والتذكُّر للحقّ جلّ شأنه يبعث على صفاء النفس ونقائها، ويُحرّر الإنسان من أغلال الأسر ويُخرج حبّ الدنيا الّذي هو رأس الخطايا ومصدر السيّئات من القلب، ويجعل الهموم همّاً واحداً، والقلب نظيفاً طاهراً جاهزاً لاستقبال صاحبه وهو الحقّ تعالى.
الذكر التّام المحيط بكلّ أطراف مملكة الجسم
إنّ ذكر الحقّ تعالى والتذكُّر لذاته المقدّس من صفات القلب، فالقلب هو الّذي يتذكَّر، فإذا تذكَّر ترتّبت عليه جميع الآثار المذكورة للذكر.
ولكن الأفضل أن يعقب الذكر القلبي الذكر اللساني أيضاً. وأفضل وأكمل مراتب الذكر كافة هو الذكر الساري على ظاهر الإنسان وباطنه، سرّه وعلنه، فتكون الصورة الباطنية للقلب والروح صورة تذكُّر المحبوب، وتتفتّح أعضاء الإنسان وجوارحه على الحقّ تعالى. ولو أنّ القلب انفتح حقّاً أمام الذكر، لجرى حكم الذكر في كلّ الظاهر والباطن، ولكانت حركة وسكون العين واللسان واليد والرجل، وأفعال كلّ القوى والجوارح مع ذكر الحقّ، ولم تقم تلك القوى الظاهرية والباطنية بأيّ فعل يخالف الوظائف الشرعية المقرّرة، فتكون حركاتها وسكناتها مبدوّة ومختومة بذكر الحقّ، وتنفذ ﴿بِسْمِ اللّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا﴾6 في جميع أطراف جسم الإنسان ليحيط بقواه كلّها الظاهرية والباطنية.
وكلّما حصل انخفاض في هذا المستوى الرفيع، وقلّ نفوذ الذكر، انتقص وبنفس النسبة من كمال الإنسان، وأثّر نقصان كلٍّ من الظاهر والباطن في الآخر.
ذكر الله باللسان:
إنّ ظاهر الإنسان وباطنه وكلّ أعضائه وقواه مترابطة ببعضها البعض، ومن هنا يُعلم أنّ ذكر الحقّ باللسان وإن كان قالباً لا روح فيه هو أمر نافع ومجدٍ أيضاً، لأنّه:
أوّلاً: قام اللسان بوظيفته بواسطة ذكره وإن كان هذا الذكر قالباً لا روح له.
ثانياً: يمكن أن يصير الذكر باللسان سبباً لتفتُّح لسان القلب على الذكر أيضاً بعد فترة من المواظبة والاستمرار عليه بشروطه. فكما أنّ المعلِّم يُكرِّر الكلمة أمام الطفل حتّى ينفتح لسانه عليها ويردِّدها ثمّ إذا نطق الطفل صار المعلِّم يكرِّر معه فيزول عنه التعب وكأن مدداً يصله من الطفل، كذلك الذاكر يجب أن يُعلِّم قلبه على الذكر، فإذا انفتح القلب على الذكر صار لسان الفم يتبع القلب، وسيزول عناء تكرار الذكر بعد أن استمدّ اللسان من القلب أو من الغيب7.
فضيلة الذكر في الأحاديث:
عن أبي عبد الله عليه السلام قال: "إنّ الله عزّ وجل يقول: من شُغِلَ بذكري عن مَسألتي أعطيته أفضل ما أُعطي من سألني"8.
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "...واعلموا أنّ خير أعمالكم "عند مليككم" وأزكاها وأرفعها في درجاتكم وخير ما طلعت عليه الشمس ذكر الله سبحانه وتعالى فإنّه أخبر عن نفسه فقال: "أنا جليس من ذكرني"9.
ومن الواضح أنّ الإنسان عندما تنكشف عليه يوم القيامة النتائج العظيمة لذكر الله ويرى نفسه بعيداً عنها ويعلم بأنّه قد حُرم من نعم كثيرة ولا يستطيع تداركها تستولي عليه الحسرة والندامة، فيجب على الإنسان أن يغتنم الفرصة ولا يخلّي مجالسه ومحافله من ذكر الله. ففي الكافي عن الفضيل بن يسار قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: "ما من مجلس يجتمع فيه أبرار وفجّار فيقومون على غير ذكر الله عزّ وجل إلّا كان حسرة عليهم يوم القيامة"10.
1- الكافي، ج 2، ص 496.
2- انظر: مرآة العقول، ج 12، ص122.
3- سورة البقرة، الآية: 168.
4- سورة ق، الآية: 16.
5- سورة طه، الآية: 126.
6- سورة هود، الآية: 41.
7- راجع الأحاديث حول هذا الموضوع في الكافي، الجزء الثاني، كتاب الدعاء، باب ما يجب من ذكر الله في كلّ مجلس.
8- الكافي، ج 2، ص 501.
9- عدّة الداعي، ص 187.
10- الكافي، ج 2، ص 496.