عن الإمام أبي جعفر عليه السلام:
"إنّ هذا الغضب جمرة من الشيطان توقد في قلب ابن آدم، وإنّ أحدكم إذا غضب احمرّت عيناه وانتفخت أوداجه ودخل الشيطان فيه، فإذا خاف أحدكم ذلك من نفسه فليلزم الأرض فإنّ رجز الشيطان يذهب عنه عند ذلك"1.
إخماد سعير الغضب:
ينبغي على الإنسان كظم الغيظ وإخماد سعير الغضب، فإنّه من جوامع الكلم ودائرة تمركز الحسنات ومجمع الكرامات، كما جاء في الحديث عن أبي عبد الله عليه السلام: "أتى رسول الله رجلٌ بدوي، فقال: إنّي أسكن البادية فعلّمني جوامع الكلام، فقال: آمرك أن لا تغضب. فأعاد عليه الأعرابي المسألة ثلاث مرّات حتّى رجع الرجل إلى نفسه، فقال: لا أسأل عن شيء بعد هذا، ما أمرني رسول الله إلّا بالخير. قال عليه السلام: "وكان أبي يقول: أيّ شيء أشدّ من الغضب؟ إنّ الرجل ليغضب فيقتل النفس الّتي حرّم الله ويقذف المحصنة"2.
بعد أن يدرك الإنسان، في حال تعقُّله وسكون نفسه وخمود غضبه، المفاسد الناجمة عن الغضب، والمصالح الناجمة عن كظم الغيظ، يلزم أن يحتّم على نفسه أن يُطفئ هذا اللهيب الحارق وهذه النار المشتعلة في قلبه، ليغسل قلبه من الظلام والكدر، ويعيد إليه صفاءه ونقاءه.
وهذا الأمر ممكن حتماً بشيء من مخالفة النفس والعمل ضدّ هواها، وبقليل من النصح والإرشاد والتدبُّر في عواقب الأمور.
كيف تعالج نفسك؟
إنّ علاج الغضب المشتعل يكون من جهتين: علمية وعملية.
العلاج العلمي: وهو أن يتفكّر الإنسان في تلك الأمور الّتي ذكرت في الدرس السابق.
العلاج العملي: وأهمُّه صرف النفس عن الغضب عند أوّل ظهوره. فإنّ الغضب أشبه بالنار الّتي تزداد شيئاً فشيئاً، وتشتدّ حتّى يتعالى لهيبها وترتفع حرارتها ويفلت من سيطرة الإنسان، وهكذا الغضب سيتطوّر حتّى يخمد نور العقل والإيمان ويُطفئ سراج الهداية فيُصبح الإنسان ذليلاً مسكيناً.
فعلى الإنسان أن يأخذ حذره قبل أن يزداد اشتعال الغضب ويرتفع سعيره، ويبادر إلى إطفاء هذه النار، وهناك عدّة أساليب لإطفاء هذه النار:
منها: أن يشغل نفسه بذكر الله تعالى وهناك من يرى وجوب ذكر الله في حال الغضب أو بأمور أخرى تقطع تفاعله الزائد مع الموضوع الّذي أثاره وتبعده عن الغضب.
ومنها: أن يغادر المكان الّذي ثار فيه غضبه.
ومنها: أن يُغيّر من وضعه، فإن كان جالساً فلينهض واقفاً، وإذا كان واقفاً فليجلس.
ومنها: وهو خاصٌّ بالغضب على ذي رحم، فإن أحسّ بالغضب فليدنُ منه ويمسّه، لأنّ الرحم إذا مسّت سكنت، كما في الرواية.
وهناك عدّة روايات أشارت إلى هذه الأساليب، منها رواية عن أبي جعفر عليه السلام: "إنّ هذا الغضب جمرة من الشيطان توقد في قلب ابن آدم، وإنّ أحدكم إذا غضب احمرّت عيناه وانتفخت أوداجه ودخل الشيطان فيه، فإذا خاف أحدكم ذلك من نفسه فليلزم الأرض فإنّ رجز الشيطان يذهب عنه عند ذلك"3.
وفي رواية أخرى عن ميسر قال: ذُكر الغضب عند أبي جعفر الباقر عليه السلام فقال: "إنّ الرجل ليغضب فما يرضى أبداً حتّى يدخل النار، فأيّما رجل غضب على قوم وهو قائم فليجلس من فوره ذلك، فإنّه سيذهب عنه رجز الشيطان وأيّما رجل غضب على ذي رحم فليدن منه فليمسّه، فإنّ الرحم إذا مسّت سكنت"4.
إنّ كبح جماح الغضب في بداية ظهوره أمر سهل ولا يحتاج للعناء والتعب، وإذا أوقفه الإنسان في هذه المرحلة ومنعه من التفاعل، فسيفيده هذا في أمرين:
1- يهدّئ النفس ويقلّل من اشتعال الغضب.
2- سيروّض النفس ويؤدّي إلى معالجتها الجذرية، وسيصل بالتالي إلى حالة الاعتدال والتوازن.
كيف تعالج غيرك؟
إذا أردت أن تعالج غضب غيرك فعليك عند ظهور علامات الغضب الأولى أن تعالجه بإحدى الطرق العلمية والعملية المذكورة، ولكن إذا اشتدت حاله واشتعل غضبه، فإنّ النصائح تنتج عكس المطلوب، ولذلك يكون علاجه وهو في هذه الحال صعباً.
هناك علاج قد يفيد في حالة اشتعال الغضب واشتداده، وهو تخويفه من قبل شخص يهابه ويخشاه، فإنّ الغاضب إنّما يغضب عندما يرى نفسه أقوى ممّن يغضب عليه، أو يرى أنّه - على الأقل - يتساوى معه في القوّة. أمّا الذين يرى أنّهم أقوى منه فلا يظهر الغضب أمامهم، بل تكون الفورة والاشتعال في باطنه ويبقى محبوساً في داخله ويولد الحزن في قلبه. فالعلاج في مرحلة الانفعال الشديد سيكون على جانب كبير من الصعوبة، نعوذ بالله منه.
اقتلاع أسباب الغضب:
من أهمّ سبل معالجة الغضب هي اقتلاع جذوره بإزالة الأسباب المثيرة له. وقد ذكروا أسباباً كثيرة للغضب مثل: العجب والزهو والكبرياء والمراء والعناد والمزاح وغيرها ممّا يطيل البحث الدخول في تفاصيلها، ولكن أكثرها تنطوي بشكل مباشر أو غير مباشر تحت عنوانين أساسين هما:
1- حبّ الذّات: ويتفرّع عنه حبّ المال والجاه والنفوذ والتسلُّط. فمن كانت فيه هذه الأنواع من الحبّ، اهتمّ بهذه الأمور كثيراً، وكان لها في قلبه مكان رفيع. فإذا واجه بعض الصعوبات في واحدة منها، أو أحسّ أنّ هناك من ينافسه فيها، تنتابه حال من الغضب والهيجان دون سبب ظاهر، فلا يعود يملك نفسه، ويستولي عليه الطمع ويمسك بزمامه مع سائر الرذائل الناجمة عن حبّ الذّات، وحاد بأعماله عن جادّة الشريعة والعقل.
وأمّا إذا لم يكن شديد التعلُّق والاهتمام بهذه الأمور، فإنّ هدوء النفس والطمأنينة الحاصلة من ترك حبّ الجاه والمقام وتفرُّعاتها تمنع النفس من أن تخطو خطوات تخالف العدالة والرويّة. إنّ الإنسان البسيط وغير المتكلّف يتحمّل المنغّصات ولا تتقطّع حبال صبره، فلا يستولي عليه الغضب المفرط في غير وقته. أمّا إذا اقتلع جذور حبّ الدنيا من قلبه اقتلاعاً، فإنّ جميع المفاسد تهجر قلبه وتحلّ محلّها الفضائل الأخلاقية السامية.
2- الجهل والاشتباه في فهم الكمال: فقد يظنّ الإنسان بسبب جهله وقلّة معرفته أنّ الغضب وما يصدر عنه من سائر الأعمال القبيحة والرذائل السافلة، كمالاً، فيحسب الغضب من الفضائل، ويراه بعض الجهّال فتوّة وشجاعة وجرأة، فيتباهى ويطري على نفسه في أنّه فعل كذا وكذا، ويحسب هذه الصفة الرذيلة المهلكة شجاعة! هذه الشجاعة الّتي تكون من أعظم صفات المؤمنين، وأشرف الصفات الحسنة. فإذا تعلّم الإنسان وعرف أنّ الغضب ليس شجاعة، عرف أنّه نقص وليس كمالاً، وينبغي التخلّص من هذا العيب والابتعاد عنه، لا التباهي به.
الفرق بين الغضب والشجاعة:
هناك فرق كبير جدّاً بين الغضب والشجاعة، إن من جهة المنشأ والأسباب أو من جهة الآثار والنتائج: فعلى مستوى المنشأ والأسباب: إنّ مبدأ الشجاعة هو قوّة النفس والطمأنينة والاعتدال والإيمان وقلّة المبالاة بزخارف الدنيا وتقلّباتها.
أمّا الغضب فناشئ عن ضعف النفس وتزلزلها، وقلّة الإيمان، وعدم الاعتدال في المزاج وفي الروح، وعن حبّ الدنيا والاهتمام بها، والتخوّف من فقدان اللذائذ البشرية. لذلك تجد هذه الرذيلة مستحكمة في المرضى أكثر ممّا هي في الأصحّاء، وفي الصغار أكثر ممّا هي في الكبار، وفي الشيوخ أكثر ممّا هي في الشبّان. ومن كانت فيه رذائل أخلاقية أسرع إلى الغضب ممّن فيهم فضائل أخلاقية، إذ يكون البخيل أسرع في الغضب من غيره إذا تعرّض ماله وثروته للخطر. فالشجاعة إذاً على عكس الغضب تماماً من جهة المنشأ والأسباب.
وعلى مستوى الآثار والنتائج: فالغاضب وهو في حال ثورة غضبه، يكون أشبه بالمجنون الّذي فقد عنان عقله، ويصبح مثل الحيوان المفترس الّذي لا تهمّه عواقب الأمور، فيهجم دون تروّ أو احتكام إلى العقل، فيسلك سلوكاً قبيحاً، يفقد سيطرته على لسانه ويده وسائر أعضائه، وتلتوي شفتاه في هيئة قبيحة بحيث إنّه لو أُعطي مرآة لخَجِل من صورته الّتي يراها فيها.
إنّ بعض أصحاب هذه الرذيلة يغضبون لأتفه الأمور، يغضبون حتّى على الحيوانات والجمادات، ويلعنون حتّى الريح والأرض والبرد والمطر وسائر الظواهر الطبيعية إذا كانت على خلاف رغباتهم.
أمّا الشجاع فهو بخلاف ذلك تماماً، فأعماله لا تكون إلّا عن روية ووفق ميزان العقل وطمأنينة النفس. يغضب في محلّ الغضب، ويحلم في محلّ الحلم، لا تهزّه الأمور التافهة ولا تغضبه، وإذا غضب، غضب بمقدار، وينتقم بعقل، ويعرف كيف ينتقم ومتى وممّن، وكيف يعفو ومتى وممّن، وفي حال غضبه لا يفقد زمام نفسه، ولا يبادر بالكلام البذيء، ولا بالأعمال القبيحة، ويزن كلّ أعماله بميزان الشرع والعقل والعدل والإنصاف، ويخطو خطوات لا يندم عليها بعد ذلك.
فعلى الإنسان الواعي أن لا يخلط بين هذا الخُلُق الّذي يتّصف به الأنبياء والأولياء والمؤمنون، ويعدّ من الكمالات النفسية، وبين الخُلُق الآخر الّذي هو من النقائص والصفات الشيطانية ومن وسوسة الخنّاس.
1- الكافي، ج 2، ص 304 ـ 305.
2- الكافي، ج 2، ص 303.
3- الكافي، ج 2، ص 304.
4- م.ن، ج 2، ص 302.