عن الإمام الصادق عليه السلام:
"ما من عبد إلّا وفي رأسه حكمة ومَلك يمسكها فإذا تكبّر قال له: اتّضع وضعك الله، فلا يزال أعظم الناس في نفسه وأصغر الناس في أعين الناس. وإذا تواضع رفعه الله عزّ وجل. ثمّ قال: انتعش نعشك الله، فلا يزال أعظم الناس في نفسه وأصغر الناس في أعين الناس"1.
في مفاسد الكبر:
إنّ لهذه الصفة القبيحة بحدّ ذاتها مفاسد كثيرة، وهذه المفاسد تتمخّض عنها مفاسد أخرى كثيرة. ونشير هنا إلى بعض تلك المفاسد:
ـ إنّ هذه الرذيلة تحول دون وصول الإنسان إلى الكمالات الظاهرية والباطينة، فهي تقف وسط الطريق لتقطع طريق الإنسان وتمنعه من الوصول إلى الكمالات الأخرى، وهي بالتّالي تمنعه من الاستفادة والاستمتاع بالحظوظ والنعم الإلهية الدنيوية والأخروية. إنّ الكبر من أخلاق الشيطان الخاصّة، فقد تكبّر على أبيك آدم فطُرد من حضرة الله، وأنت أيضاً مطرود لأنّك تتكبّر على كلّ الآدميين من أبناء آدم.
ـ تتسبّب في انبعاث الحقد والعداوة في نفوس الناس بدل الرحمة، والمجتمع الّذي يحكمه الحقد والعداوة سيقع في مفاسد أكثر من أن تحصى.
ـ تحطّ من قدر الإنسان في أعين الخُلُق وتجعله تافهاً، فيبادره الناس بالمعاملة بالمثل تحقيراً له واستهانة به. كما جاء في الرواية السابقة عن الإمام الصادق عليه السلام: "فلا يزال أعظم الناس في نفسه وأصغر الناس في أعين الناس"2.
إذا تكبّرت على الناس لم تنل منهم شيئاً من الاحترام. بل لو استطاعوا أن يذلّوك لأذلّوك ولم يكترثوا بك، وإن لم يستطيعوا إذلالك، لكنت وضيعاً في قلوبهم وذليلاً في أعينهم ولا مقام لك عندهم. افتح قلوب الناس بالتواضع إذا أقبلت عليك القلوب ظهرت أثارها عليك وإن أدبرت تكون أثارها على خلاف ما تحبّ وترغب.
ـ إنّ هذه الرذيلة ستتسبّب بالذلّ والمسكنة في الآخرة أيضاً، فكما أنّك احتقرت الناس في هذا العالَم وترفّعت على عباد الله وتظاهرت أمامهم بالعظمة والجلال والعزّة، كذلك تكون صورة هذا التكبّر في الآخرة الهوان. عن أبي عبد الله عليه السلام: "إنّ المتكبّرين يُجعلون في صور الذرّ يتوطّاهم الناس حتّى يفرغ الله من الحساب"3.
وجاء في وصايا الإمام الصادق عليه السلام لأصحابه: "إيّاكم والعظمة والكبر، فإنّ الكبر رداء الله عزّ وجل فمن نازع الله رداءه قصمه الله وأذلّه يوم القيامة".4
ولا أعرف إذا أذلّ الله تعالى شخصاً ماذا يصنع به؟ وبماذا يبتليه؟ لأنّ أمور الآخرة تختلف عن أمور الدنيا كثيراً فإنّ الذلّ في الآخرة يختلف عن الذلّ في الدنيا، وكرامتها أسمى من تصوّرنا.
ـ بالإضافة إلى كلّ ما سبق لن يرى الجنّة من كان في قلبه كبراً، كما روي عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "لن يدخل الجنّة من كان في قلبه مثقال حبّة من خردل من كبر"5.
ـ وستكون عاقبة أمره إلى النار، ففي الحديث عن الإمام أبي جعفر محمّد الباقر عليه السلام: "الكبر مطايا النار"6.
وفي رواية أخرى عنه عليه السلام:
"العزّ رداء الله، والكبر إزاره، فمن تناول شيئاً منه أكبّه الله في جهنّم"7.
وما أدراك ما جهنّم الّتي أعدّها الله للمتكبّرين. فهي غير جهنّم الّتي أُعدّت لسائر الناس، ويكفي أن نورد هنا الحديث عن الإمام الصادق عليه السلام:
"إنّ في جهنّم لوادياً للمتكبّرين يُقال له (سقر)، شكى إلى الله عزّ وجل شدّة حرّه وسأله أن يأذن له أن يتنفّس فتنفّس فأحرق جهنّم"8.
أعوذ بالله من مكان تحترق جهنّم بتنفّسه.
التفاوت بين عذاب الدنيا والآخرة:
إنّنا لا نستطيع أن نُدرك شدّة حرارة نار الآخرة في هذا العالَم، إذ إنّ أسباب شدّة العذاب وضعفه تختلف بين الدنيا والآخرة من جهات خمس:
أوّلاً: تتبع قوّة الإدراك وضعفه إذ كلّما كان الإدراك أتمّ وأنقى كان إدراك الألم والعذاب أكثر. وجميع إدراكاتنا في هذه الدنيا ناقصة وضعيفة ومحجوبة بحجب كثيرة، إنّ أعيننا لا ترى اليوم الملائكة ولا جهنّم وآذاننا لا تسمع الأصوات العجيبة والغريبة الّتي تصدر من البرزخ وأصحابه ومن القيامة وأهلها، وحواسنا لا تحسّ بحرارة ذلك المكان. كلّ ذلك لأنّها ناقصة، إنّ الآيات والأخبار الواردة عن أهل البيت صلوات الله عليهم تؤكّد على هذا الأمر تلويحاً وتصريحاً.
ثانياً: تعتمد على اختلاف الأجسام في تقبّل الحرارة ومكوثها في النار، فالذهب والحديد مثلاً يتقبّلان الحرارة أكثر من الرصاص والقصدير، وهذان يتقبّلانها أكثر من الخشب والفحم، وهذان أكثر من الجلد واللحم.
إنّ جسم الإنسان في هذا العالَم لا يتحمّل الحرارة فإنّه إن بقي ساعة واحدة في نار هذه الدنيا الّتي تعتبر باردة بالقياس إلى نار الآخرة لاستحال إلى رماد، وبالتّالي لن يبقى في العذاب، بينما الله القادر يجعل الجسم قابلاً للبقاء في نار جهنّم دون أن يذوب ليذوق العذاب، هذه النار الّتي شهد جبرائيل بأنّه لو جيء بحلقة واحدة من سلاسل جهنّم الّتي طول الواحدة منها سبعون ذراعاً إلى هذه الدنيا لأذابت جميع الجبال من شدّة حرارتها.
ثالثاً: إنّ مستوى ارتباط قوّة الإدراك بالموضع المتعرِّض للحرارة له أثر كبير في شدّة العذاب وضعفه، فالمخّ مثلاً سيكون تأثُّره بالحرارة أشدّ من العظام، لأنّ قوة الإدراك والإحساس فيه أكبر.
إنّ ارتباط النفس بالجسد في هذه الدنيا ضعيف وناقص، ففي هذا العالَم يستعصي على النفس أن تظهر فيه بكامل قواها، وأمّا الآخرة فهي عالَم ظهور النفس، ويكون ارتباطها بالجسد هناك أتمّ مراتب النسبة والارتباط كما هو ثابت في محلّه.
رابعاً: إنّ للحرارة نفسها من حيث كمالها ونقصانها دوراً في الشدّة والضعف، فالحرارة الّتي تصل إلى مائة درجة تؤلم أكثر من الحرارة الّتي تصل إلى درجة خمسين.
إنّ نار هذه الدنيا نار باردة عرضية تحتاج لمادّة تقوم بها ومشوبة بمواد خارجية غير خالصة. أمّا نار جهنّم فنار خالصة لا تشوبها شائبة، قائمة بذاتها ذو إرادة تحرق بإدراك وإرادة وتشدِّد العذاب بقدر الإمكان والقران الكريم والأخبار الشريفة مليئة بوصفها.
خامساً: إنّ مدى ارتباط الحرارة المحرقة بالجسم وتمكّنها منه له تأثيره في تخفيف العذاب و تشديده. فإذا كانت النار قريبة من اليد كان الإحتراق أخفّ ممّا إذا التصقت النار باليد.
إنّ ارتباط نار جهنّم والتصاقها بالجسم لا شبيه له في هذا العالَم، ولو تجمّعت جميع نيران العالَم وأحاطت بإنسان لما أحاطت بغير سطح جسمه. أمّا نار جهنّم، فتحيط بالظاهر والباطن، إنّها تحرق القلب والروح والقوى، وتتّحد بها بنحو لا نظير له في هذا العالَم.
فيتبيّن ممّا ذكر أن هذا العالَم لا تتوافر فيه وسائل العذاب بأيّ شكل من الأشكال، فلا أجسامه جديرة بالتقبُّل، ولا مصادره الحرارية تامّة القوّة، ولا الإدراك تام. إنّ النار الّتي تستطيع أن تحرق جهنّم بنفس منها لا يمكن أن نتصوّرها ولا أن ندركها، إلّا إذا كنّا لا سمح الله من المتكبّرين، انتقلنا من هذا العالَم إلى الآخرة قبل أن نُطهِّر أنفسنا من هذا الخُلق القبيح، فإنّنا سنراها حينئذٍ رأي العين ﴿فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ﴾9.
العوامل المساعدة على التكبُّر:
هناك عدّة عوامل توصل الإنسان إلى التكبُّر، فمن هذه العوامل:
1- الجهل وصغر العقل، حيث تشتبه الأمور عليه فيرى النقص كمالاً.
2- ضعف القابلية وعدم الاستعداد للاستفادة من العطاءات الإلهية، وتلقّيها بالشكل الخاطئ.
3- ضعة نفس الإنسان وضعفها، الّتي تدفع الإنسان لإظهار التكبُّر والعلو لتخبّئ ضعفها خلفه، فيمكن أن يتكبّر الفقير على الغني والجاهل على العالِم، فكما كان العجب مدخلاً للتكبُّر فالحسد أيضاً يمكن أن يكون مدخلاً له.
4- قلّة الصبر، الّذي يتسبّب بوقوع الإنسان بردّات الفعل غير الملائمة عند الابتلاء والامتحان.
وسينتج عن ذلك كلّه ضيق أفق، ما أن يجد في نفسه خصلة مميّزة حتّى يتصوّر لها مقاماً ومركزاً خاصّاً، ولكنّه لو نظر بعين العدل والإنصاف إلى كلّ أمر يتقنه وكلّ خصلة يتميّز بها لأدرك أنّ ما تصوّره كمالاً يفتخر به ويتكبّر بسببه، إمّا أنّه ليس كمالاً أصلاً، وإمّا أنّه إذا كان كمالاً فإنّه لا يكاد يساوي شيئاً إزاء كمالات الآخرين. فهو كمن صفع وجهه ليحسب الناس احمرار وجهه نتيجة النشاط والحيوية، وكما قيل "استسمن ذا ورم".
كيف نعالج الكبر:
هناك عدّة أمور يمكن اعتبارها كعوامل تساعد على علاج النفس:
- إنّ التفكُّر فيما ذكرنا من مفاسد الكبر وخطورته وعاقبة المتكبّرين، كافٍ لإيقاظ النفس وتنبيهها وإبعادها عن هذه الصفات الرذيلة.
- عليك أن تمسح عن نفسك عار الجهل والانحطاط، وتتّصف بصفات الأنبياء وتبتعد عن صفات الشيطان، وتعلم أنّ التكبُّر ليس كمالاً، فهذا النبيُّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم الّذي كان علمه من الوحي الإلهي، والّذي وضع جميع العادات الجاهلية تحت قدميه ونسخ جميع الكتب واختتم النبوّة، كان يكره أن يقوم له أصحابه احتراماً وإذا دخل مجلس لم يتصدّر، ويتناول الطعام جالساً على الأرض قائلاً: "إنّني عبد آكل مثل العبيد وأجلس مجلس العبيد"10، كان يعطي الفقراء بكلتا يديه ويشترك في أعمال المنزل ويحتلب الأغنام ويرقّع ثيابه ويخصف نعله بيده... مع أنّه بالإضافة إلى مقامه المعنوي كان في أكمل حالات الرئاسة الظاهرية.
مع شيء من المثابرة سيكون طريق إصلاح نفسك إذا عزمت أمراً سهلاً، ولو اتّصفت بهمّة الرجال وحرّية الفكر عن الأهواء وعلوّ النظر، فلن تصادفك أيّ مخاطر.
- اعمل على خلاف هوى نفسك، فإذا رغبت نفسك بأن تتصدّر المجلس متقدّماً على أقرانك فخالفها واعمل عكس ما ترغب فيه، وإذا كنت تأنف عن مجالسة الفقراء والمساكين فمرّغ أنفها في التراب وجالسهم وآكلهم ورافقهم في السفر ومازحهم، قد تقول لك النفس: "إنّ لك مقاماً ومنزلة وعليك أن تُحافظ عليها من أجل ترويج الشريعة، ومجالستك الفقراء تذهب بمنزلتك، والمزاح مع من هو دونك يقلِّل من هيبتك، فلا تقدر أن تؤدّي واجبك الشرعي على أكمل وجه"، اعلم أنّ هذه كلّها من مكائد الشيطان والنفس الأمارة، فلم تكن تلك سيرة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وهو من حيث المركز والرئاسة أرفع منك. بل سيرة فقهائنا ومراجعنا العظام أيضاً كانت قائمة على التواضع رغم ما لهم من مركز، كالفقيه الشيخ عبد الكريم الحائري صاحب السيرة العجيبة، حيث كان يرافق الخدم في السفر ويؤاكلهم ويفترش الأرض ويمازح صغار الطلبة وأواخر حياته كان يخرج بعد المغرب يتمشّى في الشارع وقد لفّ رأسه بقطعة قماش بسيطة منتعلاً حذاءاً بسيطاً من دون اهتمام بالمظهر. وكان هذا يزيد من وقعه في القلوب من دون أن تصاب هيبته بأيّ اهتزاز أو وهن.
1- الكافي، ج2، ص312.
2- الكافي، ج2، ص312.
3- م.ن.
4- وسائل الشيعة، ج11، ص300.
5- م.ن، ج11، ص299.
6- م.ن، ج11، ص301،
7- م.ن، ج11، ص298.
8- م.ن، ج11، ص299.
9- سورة النحل، الآية: 29.
10- انظر: مكارم الأخلاق، الطبرسي، ص 12.