عن أبي عبد الله الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليه
السلام أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بعث سرية، فلما رجعوا قال:
"مرحباً بقوم قضوا الجهاد الأصغر وبقي عليهم الجهاد الأكبر، فقيل: يا رسول الله
وما الجهاد الأكبر؟ قال: جهاد النفس"1.
الإنسان، هذا المخلوق العجيب الّذي صنعه الله تعالى بيده وحسده إبليس لما أولاه
الله تعالى من نعمه، يبهر العقول بما لديه من صفات وخصائص وإمكانات جعلها الله
تعالى ليتحمّل الأمانة الإلهية ويتمكّن من الوصول إلى الأهداف الّتي خلق لأجلها.
تقسيم نشأة الإنسان إلى عالمي الملك والملكوت:
وهذا الإنسان له نشأتان وعالمان:
أ- نشأة ظاهرية ملكية دنيوية هي بدنه.
ب- نشأة غيبية باطنية ملكوتية تكون من عالم آخر وهي الروح الّتي هي من عالم
الغيب والملكوت ليست أمراً جامداً وخامداً في هذه الدنيا، فلها مراتب ودرجات
ومقامات، قد ترتقي النفس فيها حتّى تصبح طاهرة نقية خالصة لله تعالى سعيدة تحشر مع
الأنبياء والأولياء والصالحين، وقد تنحدر حتّى تصل إلى الجهل والظلام والشقاء فتحشر
في زمرة الشياطين. فالإنسان هو ساحة صراع ونزاع مستمر بين معسكرين يريد أحدهما
الانحطاط بالنفس إلى الظلام السفلي ويريد الآخر رفعها إلى الأنوار العلوية والسعادة
الأبدية.
وفي هذا الصراع يظهر دور النفس الّتي عليها أن تأخذ زمام المبادرة في هذه الساحة
الدقيقة، لتحقِّق الجهاد الأكبر وتنتصر... فكيف يمكنها أن تقوم بهذا الدور؟
حتّى يحصل التوفيق في جهاد النفس لا بدّ من التعرُّف على أمرين أساسين:
1- نفس الإنسان بما عندها من عالمي الملك والملكوت وأوجه سعادتها وتعاستها.
2- كيفية مجاهدة هذه النفس.
مقام الملك:
تدور أعمال الإنسان في مقام المُلك والظاهر على الأمور المادية السبعة وهي "الأذن
والعين واللسان والبطن والفرج واليد والرجل".
وهذه الأمور السبعة تتجاذبها جنود الرحمان وزمر الشيطان، من خلال قوى الوهم من جهة
والعقل والشرع من جهة أخرى، فإن غلب الوهم تسلّط الشيطان وجنوده على هذه المرتبة
وصارت ظلمانية، وإن غلب العقل والشرع تسلّطت جنود الرحمان وهجرتها جنود الشيطان
وصارت نورانية. وعلى النفس أن تجاهد حتّى تطرد جنود الشيطان وتجعل هذا المقام
بأبعاده السبعة مؤتمرة بأمر الخالق تعالى.
كيف يكون جهاد النفس في هذه المرتبة؟
إنّ جهاد النفس في هذه المرتبة له مراحله الّتي يمرّ بها:
المرحلة الأولى التفكُّر:
إنّ أوّل شرط من شروط مجاهدة النفس والسير باتّجاه الحقّ تعالى هو التفكُّر.
والتفكُّر هو أن يترك الإنسان شيئاً من وقته ليجلس مع نفسه ويخاطبها خطاباً وجدانياً،
وينبهها إلى المولى الكريم الّذي خلقه في هذه الدنيا ووفّر له كلّ أسباب الراحة
ووهبه جسماً صحيحاً وقوى سليمة لها إمكانات ومنافع وآثار تحيّر العقول وتبهر
الأنظار، هذا الإله الّذي رعاه وهيّأ له ووسّع عليه وأعطاه وأنعم عليه وشمله بعطفه
ورحمته وأرسل له الأنبياء وأنزل إليه الكتب والرسالات وأرشده ودعاه إلى الهدى
وعرّفه طريق السعادة... هذا المولى ماذا يستحقّ منّا؟
وكيف يكون تعاطينا مع هذه النعم؟ هل أنّ وجود جميع هذه النعم هو فقط لإشباع الشهوات
والانغماس في حياة حيوانية لا يتميّز فيها الإنسان عن الحيوانات؟! أم أنّ هناك هدفاً
وغاية أخرى؟.
هل أنّ الأنبياء الكرام والأولياء العظام والحكماء الكبار وعلماء كلّ أمة، كانوا
أعداءً للإنسانية عندما حذّروا الناس من الانغماس في الشهوات الحيوانية والغرق في
هذه الدنيا البالية؟ هل أنّهم كانوا لا يعرفون هدف الإنسان وطريقه ومسيرته فضلّوا
كما ضللنا نحن المساكين المنغمسين في الشهوات؟!
لو وقف الإنسان مع نفسه وقفة صدق ولو للحظة واحدة لعرف أنّ الهدف من هذه النعم هو
شيء آخر، وأنّ الهدف من هذا الخُلُق أسمى وأعظم وأنّ هذه الحياة الحيوانية ليست هي
الغاية بحد ذاتها، وأنّ على الإنسان العاقل أن يُفكِّر بنفسه وأن يترحّم على حاله
ويشفق على نفسه المسكينة ويخاطبها قائلاً: أيتها النفس الشقية الّتي قضيت سني عمرك
الطويلة في الشهوات، ولم يكن نصيبك سوى الحسرة والندامة، ابحثي عن الرحمة واستحي من
مالك الملك واتجهي نحو الهدف الأساس وسيري نحو حياة الخلد والسعادة السرمدية، ولا
تخسري تلك السعادة بسبب شهوات أيام قليلة فانية زائفة، تأمّلي في أحوال أهل الدنيا
من السابقين واللاحقين، لم يحصلوا على الراحة ولا استقرّت أمورهم على ما يحبّون، كم
أنّ متاعبهم وآلامهم أكبر وأعظم من راحتهم وهنائهم!
هذا الصديق الّذي يأتي ليدعوك إلى الشهوات، ويقول: يجب تلبية الحياة المادّية وعدم
تفويتها، هذا الصديق الّذي يأتي بصورة إنسان ولكنّه جند من جنود الشيطان وأعوانه،
إذا تأمّلت في حاله واستنطقته، هل ستجده راضٍ عن ظروفه مسروراً بحياته، أم أنّه
مبتلٍ ويريد أن يبلي مسكيناً آخر؟!
إذاً فأدع ربّك بعجز وتضرّع واسأله أن يعينك على أداء واجباتك الّتي ينبغي أن تكون
أساس العلاقة فيما بينك وبين الله سبحانه وتعالى، ليأخذ بيدك بعد ذلك ويرفعك إلى
منزلة أرفع من منازل المجاهدة.
المرحلة الثانية العزم:
بعد التفكُّر والخطاب الوجداني الّذي يقوم به الإنسان تأتي مرحلة العزم، والمقصود
من العزم أن يوطِّن الإنسان نفسه على ترك المعاصي وأداء الواجبات، ويتّخذ قراراً
حازماً بذلك، وبالإضافة إليه يتدارك ما فاته في أيام حياته، فيقضي ما ترك ويردّ
حقوق الناس ويدفع المظالم وينهي كلّ أثر للمعاصي الّتي ارتكبها ويجبر كلّ نقص في
الواجبات الّتي تخلّف عنها وتركها، فيصبح ظاهره ظاهر الإنسان الشرعي الّذي يُنظِّم
سلوكه وفق ما يتطلّبه الشرع.
ملاحظة وتنبيه: أوّل خطوة في السلوك في المعارف الإلهية هي الالتزام بأحكام الشريعة،
ولا يمكن للإنسان أن يحصل على الأخلاق الحسنة إلا من خلال ذلك، ولا يتصوّر أحد أنّه
يمكن أن يتجلّى في قلبه نور المعرفة وتتكشّف له الأنوار الإلهية من خلال الالتزام
بطريق آخر وترك هذا الطريق، وبعد ظهور المعارف والأنوار الإلهية في القلب لا بدّ من
الاستمرار في التأدُّب بالآداب الشرعية الظاهرية أيضاً.
كيف تحصل على العزم؟
إنّ التجرّؤ على المعاصي يفقد الإنسان تدريجياً العزم، فيفقد هذا الجوهر الثمين،
يقول أستاذ الإمام(رضوان الله عليه): "إن أكثر ما يسبب فقد الإنسان العزم والإرادة
هو الاستماع للغناء".
عليك إذاً أن تهجر المعاصي وتهاجر إلى الحقّ تعالى، وتحافظ على الظاهر الإنساني
الشرعي واسلك سبيل الأنبياء والصالحين، واطلب من الله تعالى في الخلوات أن يوفّقك
لذلك ويعصمك من المزالق فيمكن للإنسان أن يسقط في لحظة واحدة فيعجز عن إنقاذ نفسه
ويكون الهلاك! واستشفع برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأهل بيته عليهم السلام
ليتمّ التوفيق.
المرحلة الثالثة المشارطة والمراقبة والمحاسبة:
وهي من الأمور الضرورية للمجاهد، وهي أمور ثلاثة:
الأول - المشارطة: وتكون في أوّل اليوم حيث يخاطب الإنسان نفسه ويشارطها على
أن لا يرتكب اليوم أيّ عمل يخالف أوامر الله تعالى، ويتّخذ قراراً بذلك ويعزم عليه.
وترك ما يخالف أوامر الله لمدّة يوم واحد هو أمر يسير وسهل للغاية، ويمكن للإنسان
بكلّ سهولة أن يلتزم به، فاعزم وشارط وجرّب وانظر كيف أنّ الأمر سهل يسير، وقد
يوسوس لك الشيطان ليٌصعِّب عليك الأمور ويصوّر الأمر وكأنّه صعب عسير، ولكنّه وهم
عليك أن تخرجه من قلبك، جرّب ليوم واحد تعرف سهولته.
الثاني - المراقبة: بعد المشارطة يأتي دور المراقبة، فيبقى طوال اليوم
متنبّهاً لتطبيق المشارطة، فتعتبر نفسك ملزماً بالعمل وفق ما شارطت، فإذا حدّثتك
نفسك بارتكاب المعاصي فاعلم أنّه وسوسة الشيطان الّذي يحاول استدراجك للمعصية
فالعنه واستعذ بالله من شرّه، وتذكّر شرطك لهذا اليوم وخاطب نفسك: "إنّي اشترطت على
نفسي أن لا أقوم في هذا اليوم وهو يوم واحد بأيّ عمل يخالف أمر الله تعالى، وهو وليّ
نعمتي طوال عمري، فقد أنعم علي بالصحة والسلامة والأمن وتلطّف بألطاف أخرى، ولو
أنّي بقيت في خدمته إلى الأبد لما أدّيت حقّ واحدة منها، أفلا أفي بشرط بسيط كهذا؟!
الثالث - المحاسبة: إذا جاء الليل فقد حان وقت المحاسبة، فعليك أن تحاسب
نفسك لترى هل أدّيت ما اشترطت على نفسك مع الله ولم تخن وليّ نعمتك في هذا العهد
البسيط؟ إذا كنت قد وفّيت حقّاً فاشكر الله على هذا التوفيق، وسيكون عمل الغد أيسر
وأسهل عليك من سابقه فواظب عليه فترة حتّى يتحوّل إلى عادة مطبوعة في نفسك تقوم بها
بشكل تلقائي وبكلّ سهولة. وستحسّ حينها باللذّة والأنس بطاعة الله تعالى وترك
معاصيه رغم أنّ هذا العالَم ليس عالَم الجزاء...
وإذا وجدت لا سمح الله في أثناء المحاسبة تهاوناً وفتوراً تجاه ما اشترطت على نفسك،
فاستغفر الله واطلب العفو منه، واعزم على الوفاء بكلّ شجاعة بالمشارطة غداً، وثابر
على ذلك واصبر حتّى يفتح الله تعالى أمامك أبواب التوفيق والسعادة ويوصلك إلى صراط
الإنسانية المستقيم.
1- الكافي، ج 5، ص 17.