حياة بسيطة وشعبية
كانت حياة الإمام الخميني بسيطة وشعبية للغاية.. على سبيل المثال، كنّا نلحق به أحياناً بعد الانتهاء من الدرس، للاستفسار واستيضاح بعض الموضوعات. وفي الطريق كنّا نُشاهد سماحته يدخل المحال التجارية بكلّ بساطة ويقوم بشراء احتياجات المنزل بنفسه.. إنّ مثل هذه البساطة وعدم التكلّف، التي اعتاد عليها الإمام في حياته، تُجسّد المعنى الحقيقي للزهد.. فقد اعتاد على استهلاك القليل والانتفاع به إلى أقصى حدٍّ ممكن.. وكان وجوده مدعاة خير وبركة بالنسبة للآخرين على الدوام.. إنّ بساطة العيش والزهد كانا ملازمين لسماحته حتى خلال فترة المرجعية. وكان بيت المال يحظى بأهمّية خاصّة لدى سماحته1.
لا بدّ من اطلاع الناس على البرقية
في الماضي كان علماء الدين يتّخذون أشدّ المواقف وأكثرها قوّة وحزماً ضدّ الطغاة والمستبدّين، غير أنّ الناس لم يكونوا يطّلعون عليها في معظم الأحيان. حتى أنّهم كانوا يتصوّرون أحياناً بأنّ العلاقة السائدة فيما بينهم على أحسن ما يرام.. بيْدَ أنّ الإمام ومنذ انطلاقة النهضة عام 1341 هـ.ش - 1962م -، ولدى لقائه جمعاً من علماء قم، اقترح على الحاضرين ضرورة طباعة البرقيات والرسائل التي يتمّ تبادلها بين علماء الدين وأركان النظام الشاهنشاهي ووضعها في متناول أبناء الشعب، كي يتسنّى لعامّة الناس الاطلاع على كافّة التفاصيل والتعرّف على مواقف الطرفين.. ولم يمضِ وقت طويل حتى غيّر الإمام أسلوب تعامل العلماء مع النظام تماماً. فبدلاً من أن يُخاطب في برقياته، الشاه والحكومة وكبار المسؤولين، توجّه بالخطاب إلى الشعب وأقدم رسمياً على إصدار البيانات2.
لم يحتفل بعد ذلك
في الأيام الأولى من قدوم الإمام إلى النجف، كان سماحته يحتفل في الأعياد الدينية من قبيل عيد الفطر وعيد الأضحى والمنتصف من شعبان والثالث عشر من رجب، وولادة الصدّيقة الزهراء، حيث كان يُقام احتفال بهيج في القسم الخارجي من المنـزل، ويأتي السادة العلماء والطلبة لتقديم التهاني والتبريك. ولكن ومنذ أن علم الإمام بحملات الاعتقال والتعذيب التي كان يتعرّض لها المجاهدون المسلمون في سجون النظام الشاهنشاهي، لم يعد يحضر سماحته هذه الاحتفالات وامتنع عن إقامتها تماماً ولم يحتفل بعد ذلك3.
كيف أذهب إلى الكوفة؟
الطقس في النجف حار جدّاً حتى أنّ درجة الحرارة كانت تصل أحياناً إلى خمسين درجة مئوية.. وفي أحد الأيام ذهبتُ مع عدد من الإخوة إلى الإمام وقلنا لسماحته: أيّها السيّد! إنّ الحرّ شديد، وأنت رجل مسنّ، وإنّ أناساً كثيرين يذهبون في الليالي إلى الكوفة حيث الطقس جميل، فلتذهب أنت أيضاً. فقال: "كيف لي أن أذهب إلى الكوفة لأنعم بالجوّ الجميل، بينما أخوتي في إيران يقبعون في السجون؟"4.
وهل لدى جميع الطلبة (برّادات) حتى تكون لدينا واحدة؟
ينقل أحد الذين عملوا في منـزل الإمام منذ إقامة هذا العظيم في النجف موضحاً: لم يكن لدينا (برّاد) في المنـزل في حين كنتُ أعلم بوجوده في معظم المنازل بالنجف.. ونظراً لحاجتنا الماسّة إلى (البرّاد)، قلتُ يوماً للسيّد مصطفى: أيّها الحاج اشتري لنا برّاداً. فقال: سأفعل. ولكن عندما استشار الإمام، قال سماحته: كلّا، وهل لدى جميع الطلبة برّادات حتى تكون لدينا واحدة؟.. وبعد مدّة من التردّد على منازل الطلبة علمت بأنّ الجميع لديهم برّاد. فأخبرت الإمام بذلك، عندها أذِن سماحته بشراء برّاد صغير5.
لم أرَ مثلما كنتُ أتصوّر
قبل التوجّه إلى باريس، كنتُ أتصوّر، بوحي من الانطباع الذي كنتُ أحمله عن هذه المدينة، بأنّ منـزلاً مؤثّثاً قد تمّ إعداده لقائد الثورة، كي يتسنّى له في أية لحظة إرسال نداء إلى مختلف أنحاء العالم، أو تسلم الأخبار أوّل بأوّل.. بيْدَ أنّه عندما دخلتُ باحة المنـزل الذي كان يُقيم فيه الإمام، واجهتُ حشداً من الحاضرين في القسم الخارجي من المنـزل.. كان هناك عدد كبير من الأحذية. ولأنّ الجوّ كان ممطراً، كانت الأحذية كلّها ملطّخة بالوحل.. ولجت الباب فإذا بدهليز صغير علقت أمامه ستارة من القماش. فأزحت الستارة وتوجّهت نحو الجانب الآخر. رأيتُ غرفة صغيرة وضع فراش في صدرها وقد جلس الإمام عليه.. لم أرَ أيّ أثر للإمكانات المتوقّعة ووسائل الراحة.. باختصار لم أرَ ما كنتُ أتصوّره6.
كانت هذه أجمل لحظات حياتي
بعد خطابه في مقبرة (جنّة الزهراء)، أعرب الإمام عن رغبته بالسير وسط الجموع المحتشدة. وهناك صورة للإمام يبدو فيها حاسر الرأس ومن غير عباءته وكأنّه يلتقط أنفاسه بصعوبة. وقد أوضح سماحته فيما بعد قائلاً: "لقد شعرت بأنّ روحي تخرج من جسدي".. أراد الإمام أن يقول بأنّ أجمل لحظات حياتي هي تلك التي كاد أن يُقضى عليّ وسط زحمة الجماهير. ومثل هذا يصوّر لنا غاية الإخلاص والتواضع اللذين كان يتحلّى بهما الإمام ويُعبّر بذلك عن مشاعره تجاه الجماهير7.
أودّ أن أُقبّل جباهكم
خلال الفترة التي كان الإمام يُقيم في مدرسة (علوي)، كان الناس يأتون زرافات زرافات لرؤيته.. الرجال يأتون في الصباح والنساء عصراً.. كان الزحام بشكل عجيب، وكان البعض يُصاب بالإغماء فيتمّ نقلهم بسيّارات الإسعاف إلى المستشفى.. كنتُ مرّة عند الإمام، ومن بين الجموع المحتشدة وقع نظر الإمام على صبيٍّ لم يتجاوز عمره العشر سنوات، كان يبكي ويتدافع كي يصل إلى الإمام. فأشار الإمام أن يأتوا له بهذا الصبيّ. فجاؤوا به وكان مبللّاً من شدّة العرق، وكان يبكي من شدّة الشوق والفرحة. وفيما كان الإمام يحاول أن يُحيطه بحنانه قال له الصبي: أريد أن أُقبّل وجهك. فأحنى الإمام رأسه فقبّل الصبيّ خدّ الإمام. ثمّ طلب أن يُقبّل خدّه الآخر، فأذن له الإمام بذلك. وأخيراً قال: أريد تقبيل جبينك. فانحنى الإمام بكلّ تواضع حتى يتمكّن الصبيّ من تقبيل جبين سماحته المبارك8.
والناس ماذا تفعل؟
بعد انتصار الثورة، كانت الجماهير تأتي من مختلف الفئات، للقاء الإمام في قم. ونظراً لشدّة الزحام كان من الممكن أن تنتظر الجموع ساعات طوال في الطقس البارد حتى يأتي دورها. وفي بعض الأحيان كان الإمام يصعد إلى السطح ليُحيّي الناس المحتشدة فيما كانت الثلوج تتساقط. فكنّا نحاول أن نُمسك المظلّة لمنع المطر عن سماحته، فكان يقول مستاءً: "والناس ماذا تفعل؟ أنا لا احتاج للمظلّة"9.
أنت أيضاً قف في الطابور كالآخرين
في الأيّام الأولى من انتصار الثورة كان الإمام في قم، وكانت الحشود الكبيرة تأتي للقاء سماحته كلّ يوم تقريباً. فكانت المدينة مكتظّة بالزوّار.. الفنادق ممتلئة، والمطاعم مزدحمة، وطوابير طويلة أمام أفران الخبز.. باختصار كانت مدينة قم تموج بالحشود البشرية.. وكان ثمّة شيخ عجوز ضعيف البنية يخدم في منـزل الإمام، كانوا ينادونه بالأب.. في أحد الأيام قال له الإمام: "علمتُ بأنّك عندما تذهب لشراء الخبز، يقول الواقفون في الطابور بأنّ هذا الرجل خادم السيّد، ويحاولون أن يضعوك في مقدّمة الطابور وتأخذ ما تريده من الخبز دونانتظار.. لا تفعل هذا. ليس من المناسب أن يذهب أحد أفراد هذا المنـزل لشراء شيء ما دون مراعاة دوره في الطابور.. أنت أيضاً قف في الطابور شأنك شأن الآخرين.. حذار من أن تكون لك الأفضلية!"10.
من الذي قال امنعوا الناس؟
بعد انتصار الثورة، جاء الإمام مرّة إلى المسجد الأعظم في قم لحضور أحد مجالس الفاتحة.. ونتيجة للزحام فُقد حذاء الإمام وسقطت العمامة من على رأسه، وحاولنا بشقّ الأنفس إخراجه من وسط الناس المزدحمة.. وفي اليوم التّالي، وحيث كان من المفترض أن يُشارك سماحته في مجلس يُقام في نفس المكان، تمّ إحضار عدد من الحرس للتواجد في المسجد ومراقبة مكان جلوس الإمام.. وبعد حضور سماحته واشتداد الزحام، تمّ إغلاق أحد الأبواب.. وما أن انتهى الاحتفال، وبدلاً من أن يتوجّه لركوب السيّارة، توجّه الإمام إلى وسط الحشد حيث أحاط به الناس من كلّ صوب.. بعدها وفي طريق عودته، قال سماحته إلى المرحوم إشراقي: "مَنْ الذي قال بأن تمنعوا الناس وتتركوهم خلف الأبواب؟ آمل أن لا تتكرّر هذه الأعمال من الآن فصاعداً"11.
أنا لا أريد مرافِقاً مسلّحاً
ثمّة مشكلة كبيرة حدثت في الأيام الأولى من وجود الإمام في قم بخصوص توفير الحماية والأمن. إذ أنّ الإمام كان يرفض أن يرافقه حارس مسلّح، كان يقول دائماً: "أنا لا أُريد مرافقاً مسلّحا". وفي ذات الوقت الذي كان الإمام يذهب في الليالي، إلى منازل أصحاب السماحة والفضيلة وأُسر الشهداء، وكانت ثمّة مخاطر كبيرة تُهدّد حياته من هذه الناحية، كان أهالي مدينة قم بمجرّد أن يعلموا بوجود الإمام في شارع أو زقاق ما، كانوا يخرجون من منازلهم ويحتشدون حول السيّارة التي كانت تُقلّ سماحته. حتى أنّهم كانوا يجلسون فوق سقف السيّارة، فيحتار السائق ماذا يفعل، وفي الوقت نفسه كان الإمام يُصرّ على القول: "لا يتبعني أحد.. الناس هم الذين يحموني"12.
نموذج من حبّ الإمام الشديد للناس
كان الإمام يستقبل زوّاره، سواء من داخل إيران أو خارجها، في غرفة صغيرة ومتواضعة. وفي بعض الأحيان كان الإمام يخطب خمس مرّات في اليوم الواحد، سواء للمحتشدين في باحة المنـزل أو إلى الذين قدموا للقائه. وعلى الرغم من أنّ ذلك كان يُرهقه كثيراً، ولكنّه ونظراً لحبّه الشديد للناس وعشقه لهم، لم يقل لا أبداً13.
الإمام ذهب وسط الجماهير
عندما كان الشهيد رجائي وزيراً للتربية والتعليم، توجّه في 28 شهريور 1358هـ.ش (1979/09/19م) للقاء الإمام في قم مصطحباً معه المدراء العامّين في الوزارة.. كان الجميع جالساً في الغرفة الصغيرة التي يستقبل فيها الإمام ضيوفه. وكانت الجماهير الثورية المحتشدة في الأزقّة المحيطة بمنـزل الإمام، تهتف بالشعارات الحماسية.. فجأة قيل لنا جاء الإمام، وما أن لمحنا عباءة سماحته انتفضنا واقفين. غير أنّ الإمام لم يدخل الغرفة.. فجأة ارتفعت أصوات الحاضرين بالتكبير والتهليل والصلاة على محمّد وآل محمّد. سألنا ما الذي حدث؟ قالوا: الإمام ذهب وسط الجماهير14.
التعامل بمنتهى الحلم والبهجة
أثناء لقائه الناس والإصغاء إلى همومهم واحتياجاتهم، وكذلك الحرص على خدمتهم بكلّ إخلاص، لم يشعر الإمام بالتعب مطلقاً.. ففي الكثير من الأوقات يضيق ذرعاً حتى المسؤولين في مكتب الإمام من إلحاح بعض المراجعين وإصرارهم غير المبرّر. غير أنّ الإمام كان يتعامل مع الجماهير بمنتهى الحلم والبهجة. فلم نرَ سماحته قد غضب في مثل هذه المواقف مطلقاً. حتى أنّه كان يستمع إلى هموم الناس وتطلّعاتهم بكلّ رحابة صدر15.
جاء هؤلاء إلى هنا بكلّ شوق
إبّان الانتصار، وخلال الفترة التي كان الإمام يُقيم في قم، كانت الجماهير تأتي لرؤيته وتحيته في كلّ يوم تقريباً، وكانوا يُعبّرون عن أحاسيسهم ومشاعرهم أثناء تواجدهم في الأزقّة التي تُفضي إلى مقرّ إقامة الإمام.. كانت حشود مكتظّة. وكان الإمام يصعد إلى السطح لتحيّة الجماهير والسلام عليها. فكان البعض يطلب من سماحته: (أيّها السيّد! لا تصعد إلى السطح، إنّه لا يخلو من خطورة)، غير أنّ الإمام كان يرفض مثل هذا التحذير قائلاً: "كلّا.. لقد جاء هؤلاء إلى هنا بكلّ شوق وحبٍّ".. وعندما رأى البعض إصرار الإمام، قالوا له: (أيّها السيّد! متى ما أردت الصعود إلى السطح، اسمح لنا بمراقبة الأوضاع أولاً). حتى أنّ السيّد إشراقي حاول تكرار ذلك أكثر من مرّة، غير أنّ سماحته لم يكن يعبأ بذلك. فما أن كان يتنادى إلى سمعه هتافات الجماهير المحتشدة داخل الأزقّة، حتى كان يصعد إلى السطح.. كان سماحته حريصاً على التعبير عن احترامه للناس الذين جاؤوا لتحيّته بكلّ شوق وحماس16.
الجماهير لن تتزلزل مطلقاً
مرّت فترات شنّ فيها المغرضون دعايات واسعة في الداخل والخارج تؤكّد مرض الإمام. فكان يُقال للإمام لا بدّ من أن يكون لك ظهور عام من خلال لقاء أو خطاب، وإلا فإنّ مثل هذه الدعايات سوف تترك تأثيرها على حماس الشعب والمقاتلين في جبهات القتال. فكان الإمام يردّ على ذلك بالقول: "وهل يُقاتل الشعب من أجلي حتى يتأثّر بذلك؟ إنّ أبناء الشعب يناضلون من أجل الله والإسلام ولن يزلزلوا مطلقاً"17.
أنا أعرف الجماهير بنحو أفضل
من بين كلّ الذين أعرفهم لا أجد شخصاً كالإمام يؤمن بدور الشعب الإيراني. فقد قيل لسماحته مراراً خلال مرحلة النضال: أيّها السيّد إنّ الشعب لا يُطيق تحمّل متاعب النضال ومشاقه. غير أنّ الإمام كان يُجيبهم: "كلّا، الشعب ليس كما تقولون، إنّني أعرف الجماهير أفضل منكم"18.
الصحف ليست ملكاً لنا
ذهبتُ يوماً للقاء الإمام برفقة مندوبي سماحته في كلٍّ من مؤسسة كيهان ومؤسسة اطلاعات، الشهيد شاه جراغي والسيّد دعائي. وكان وزير الثقافة والإرشاد آنذاك موجوداً. فقال لنا الإمام مداعباً: "أرجو أن لا يقتصر اهتمام الصحف على نشر الأمور المرتبطة بي، وأن لا تحرص على وضع صورة لي في الصفحة الأولى وعنوان رئيسي يُنسب لي". ثم قال: "الصحف ليست ملكاً لنا. إنّها ملك للشعب المحروم. ملك للطبقات الوسطى.". وأضاف: "إذا ما عمل أحد المزارعين عملاً جيداً، حاولوا أن تضعوا صورته في الصفحة الأولى بدلاً منصورتي"19.
لأنّه غير متوافر للجميع لذا لن أذهب للملجأ
يشهد الله بأنّ الإمام كان يدعو لأبناء الشعب في صلاة الليل وفي مناجاته وتهجّده. وكان يُطالب دائماً بتوفير الرخاء للشعب.. كان حريصاً على أن ينعم الشعب بالهدوء والاستقرار، وكان لا يكفّ عن أن يوصي المسؤولين بذلك. خاصّة المسؤولين الذين تسلّموا زمام الأمور في مطلع الثورة ولم يكونوا يعبؤون كثيراً بهموم أبناء الشعب.. كما كان حريصاً على راحة الشعب واستقراره.. يعلم الله كيف أنه لم يكن يغادر غرفته خلال الفترة التي كانت تتعرّض طهران للقصف الصاروخي والقصف الجوّي. ولم يكن يبتعد عن النافدة.. فكم ألحّ على سماحته السادة المسؤولون وبعض أفراد أسرته، بأن يأذن بإعداد ملجأ له، غير أنّه كان يقول: "إذا كان بوسع كافّة أبناء الشعب الذهاب إلى الملاجئ لكي لا يلحق بهم أذى، عندها سأذهب أنا للملجأ. ولكن أعلم بأنّ إمكانية ذلك غير متوافرة لجميع أبناء الشعب.. صحيح قد تمّ لحدٍّ الآن تشييد عدد من الملاجئ، إلا أنّ الغالبية من أبناء الشعب لا تستطيع الاستفادة منها. لذا لن أتحرّك من مكاني".. قلتُ: سيدي! قسماً بالله إنّ الشعب نفسه سوف يفرح عندما تكون أنت في مكان آمن. لذا نسألك أن تحمي نفسك من أجل أبناء شعبك. فأجاب: "أجل، تلك مسؤولية أخرى. ولكن أنا لا أستطيع أن اذهب إلى مكان أتصوّر أنّي آمن فيه، في الوقت الذي أعلم بأنّ ذلك غير متيسّر لجميع أبناء الشعب"20.
إلى جوار الشعب في المخاطر
في عصر أحد الأيام، أصابت نحو سبعة إلى ثمانية صواريخ المنطقة المحيطة بجماران.. فتوجّهتُ إلى الإمام وقلتُ: كم سنفرح إذا ما أصاب أحد صواريخنا قصر صدّام. ولكن ماذا لو وقع أحد الصواريخ بالقرب منّا ونزل السقف علينا ولحق بك سوءاً. فقال الإمام: "قسماً بالله! إنّي لا أرى فرقاً بيني وبين ذلك الحارس المرابض أمام المنـزل.. قسماً بالله! إنّ الأمر سيّان بالنسبة لي إذا ما قُتلت أنا أو قُتل هو". فأجبتُه: نحن نعلم بأنّك تُفكّر بهذه الطريقة، ولكن الأمر يختلف بالنسبة للشعب.. فقال: "كلّا، لا بدّ للشعب أن يعلم بأنّه إذا ما حاولت اللجوء إلى مكان آمن لئلّا أُقتل، فيما يُقتل بالقصف الحارس المرابض أمام المنـزل، فإنّي لم أعد أصلح لقيادة هذا الشعب.. إنّني أستطيع أن أخدم الشعب عندما تكون حياتي على قدم المساواة مع حياة الشعب.. فإذا ما تقرّر أن يتعرّض أبناء الشعب، أو هؤلاء الحرس، أو الذين يتواجدون هنا، للأذى فلأكن أنا أحدهم كي يُدرك الشعب بأنّنا معاً وإلى جوار بعض".. فقلتُ: إلى متى تريد الجلوس هنا؟. فهزّ كتفه المبارك وقال: "إلى الوقت الذي تُصيب شظايا الصاروخ المكان"21.
متى ما توفّرت الملاجئ للجميع
خلال فترة القصف الجوّي وسقوط الصواريخ على طهران، قام الإخوة في الحرس بتشييد ملجأ صغير بالقرب من مقرّ إقامة الإمام كي يلجأ إليه وأفراد أسرته إذا ما أعلنت حالة الخطر ودقّت صافرة الإنذار.. غير أنّ سماحته لم يذهب إلى الملجأ أبداً. وعندما كنّا نسأله لماذا لا تذهب إلى الملجأ حفاظاً على حياتك من أجل الشعب؟ كان يقول: "وهل تتوفّر الملاجئ لكافّة أبناء الشعب حتى يكون لي ملجأ؟ متى ما أصبح لدى جميع أبناء الشعب ملاجئ عندها يمكن أن أحتمي بالملجأ". وأصرّ سماحته على البقاء في غرفته الصغيرة22.
لا يحقّ لكم أن تمنعوا الناس
كان الإمام يُحذّر أعضاء المكتب دائماً قائلاً: "حذارِ أن تُسيؤوا معاملة الناس.. لا يحقّ لكم أن تمنعوا الناس". وفي أحد الأيام خرج سماحته من المنـزل مبكراً على غير عادته. فرأى الناس يتزاحمون وراء السياج الحديدي بانتظار أن يفتح الباب كي يتسنّى لهم الدخول. وقد اشتدّ تدافعهم عندما رأوا الإمام لعلّ الباب يُفتح أسرع.. فنظر الإمام إلى من حوله ممتعضاً، وطلب منّا ومن الحرس بضرورة إزالة هذا السياج23.
تعال في أيّ وقت تُحبّ
في كلّ يوم كانت تصل إلى مكتب الإمام أكثر من خمسمئة رسالة. وقد اعتاد سماحته على قراءة كلّ الرسائل حتى الرسائل الاعتيادية، قبل أن يمنعه الأطباء من كثرة القراءة.. وثمّة رسائل كثيرة أجاب فيها الإمام بخطّ يده على رسائل الأطفال والأحداث، الذين كانوا يبعثون برسائلهم المفعمة بمشاعرهم وأحاسيسهم الجيّاشة حيال الإمام.. إنّ هذا النوع من الرسائل كثير جدّاً. وفي كثير من الأحيان كانوا يطلبون من سماحته أن يبعث لهم صورته مزيّنة بتوقيعه. فكان الإمام يأمر بتهيئة الصور وإرسالهم إليهم24.
قولوا له أن يأتي
في عام 1361 كان لنا لقاء مع الإمام.. عندما وصلنا إلى بوّابة المنـزل، تقدّم نحوي شيخ عجوز كان يحمل في يده كيساً، وقال بلكنة تركية: أيّها السيّد! إذا التقيتَ الإمام قل له بأنّ شيخاً عجوزاً من أهالي ارسباران قد أمضى وقت طويلاً في الطريق حتى وصل إلى هنا، وإنّه يريد أن يتشرّف بلقائك. وأضاف: أريد أن أهدي الإمام كيس اللوز هذا.. وقد وعدتُه بأن أبلغ رسالته إلى الإمام.. لمّا حان دوري للقاء الإمام، جاء السادة حجج الإسلام الشهيد محلاتي وأنواري وموحدي كرماني، مندوبو الإمام في حرس الثورة والجندرمة وقوات الشرطة، للقاء الإمام. فقال الإمام للسيّد صانعي: أنا متعب ولا أستطيع أن أستقبل السادة.. عندها قلتُ مع نفسي، لما يكون الإمام غير مستعدٍّ لاستقبال مندوبيه، فكيف سيوافق على استقبال هذا الشيخ العجوز. ولكن على أيّة حال أخبرتُ الإمام بحكاية الشيخ موضحاً: بأنّ ثمّة شيخاً عجوزاً في الباب يتمنّى رؤيتكم. فأمر الإمام على الفور: "قولوا له أن يأتي". عندما دخل الشيخ العجوز حيّاه الإمام بحرارة وتفقّد أحواله وأحنى ظهره كي يتمكّن من تقبيل يده25.
كانوا يتصرّفون بمنتهى الاحترام
المشاعر التي كان يتمتّع بها الإمام حيال أبناء الشعب، كانت على درجة كبيرة من الرقي. وعلى الرغم من كلّ الهموم التي كان يواجهها والمسؤوليات التي يتحمّل أعباءها، كان يأتي إلى سماحته أشخاص يتحدّثون إليه أحياناً حتى عن مشكلاتهم الأسرية. وفي أحد الأيام جاء إلى مكتب الإمام شاب كان مضرباً عن الطعام حتى يتسنّى له لقاء الإمام. ومهما حاول الزملاء ثنيه عن ذلك والتعرّف على مشكلته، باءت محاولاتهم بالفشل. وكان يُصرّ على ضرورة لقاء الإمام بمعزل عن الآخرين. فتمّ إبلاغ الإمام بحكاية هذا الشاب. فوافق سماحته على استقباله رغم ما في الأمر من خطورة على حياته. إذ كيف ينفرد شاب بالإمام دون أية معرفة مسبقة.. على أية حال دخل هذا الشاب على الإمام وطرح على سماحته مجموعة من الأسئلة التي لا معنى لها، وكان موضوعها عادياً جدّاً. ومع ذلك تعامل معه الإمام بمنتهى الاحترام26.
1- آية الله إمامي كاشاني، مرآة الجمال، ص54-55.
2- سيد حميد روحاني، مقتطفات من سيرة الإمام الخميني قدس سره، ج1، ص119.
3- حجة الإسلام قرهي، ص99.
4- آية الله ناصري، ص101.
5- الدكتورة فاطمة طباطبائي، مرآة الجمال، ص126-127.
6- آية الله ناصري، ص101.
7- حجة الإسلام الإمام الجماراني، مقتطفات من سيرة الإمام، ج1، ص143.
8- حجة الإسلام مهدي كروبي، ج2، ص197.
9- حجة الإسلام محمد علي أنصاري، ص124.
10- حجة الإسلام حسن ثقفي، ص127.
11- حجة الإسلام علي أنصاري، ص136.
12- حجة الإسلام علي أنصاري، ص144.
13- آية الله توسّلي، ص146.
14- كيومرث صابري، ص149.
15- حجة الإسلام محمد علي أنصاري، ص 151.
16- حسن ثقفي، ص152.
17- حجة الإسلام محمد علي أنصاري، ص115.
18- آية الله الشهيد مطهري.
19- حجة الإسلام مسيح مهاجري، ص113-114.
20- فرشته أعرابي، ص109-110.
21- حجة الإسلام أحمد الخميني، ص106-107.
22- خادم الإمام قدس سره.
23- حجة الإسلام محمد علي أنصاري، ص135.
24- حجة الإسلام محمد علي أنصاري، ص157.
25- محسن رفيق دوست، ص157-158.
26- حجة الإسلام محمد علي أنصاري، ص161.