اليقظة من الغفلة
إنّ اليقظة تُمثّل الخطوة الأولى في السلوك. ولكنّكم ما زلتم تغطّون في نوم عميق. فلو لم تكن الأفئدة ملوّثة بنوم الغفلة، والقلوب اسودّت وصدئت نتيجة الذنوب، لما كنتم هكذا غير مبالين وغير مهتمّين، تواصلون الأعمال والأقوال الشنيعة. فلو فكّرتم قليلاً بأمور آخرتكم وعقباتها الكأداء لأوليتم اهتماماً كبيراً للمسؤوليات الجسام الملقاة على عواتقكم.
إنّ وراءكم حساباً. كما أنّ أمامكم معاداً وقيامة، ولستم كسائر الكائنات التي لا معاد لها ولا حساب.
فلماذا لا تتّعظون؟ لماذا لا تفيقون؟ لماذا تخوضون مطمئنّين في الاغتياب والإساءة إلى إخوتكم المسلمين أو تستمعون إلى ذلك؟ هل تعلمون أنّ هذه الألسن التي تمتدّ لاستغابة الآخرين، سوف تُداس بأرجل الآخرين يوم القيامة؟
هل تعلمون أنّ الغيبة إدام كلاب النار؟ هل فكّرتم أصلاً في العواقب الوخيمة السيّئة لهذه الاختلافات والعداوات الحسد وإساءة الظن والأنانية والغرور والتكبّر و..؟!
هل تعلمون أنّه من الممكن أن تكون جهنّم عاقبة هذه الأفعال الدنيئة المحرّمة، وتقود إلى الخلود في نار جهنّم؟
الأمراض النفسية لا تظهر آلامها مباشرة
لا قدّر الله أن يُبتلى الإنسان بأمراض لا تظهر آلامها. إنّ الأمراض المؤلمة تدفع الإنسان لأنّ يُفكّر بعلاجها، فيذهب إلى مراجعة الطبيب أو المستشفى. بيد أنّ المرض الذي لا يُرافقه الألم ولا يشعر الإنسان بتبعاته مرض خطير لأنّه عندما يتنبّه إليه الإنسان يكون قد فات الأوان واستحال العلاج.
والأمراض النفسية هي من هذا النوع. فلو كانت مصحوبة بالألم المباشر لحرّكت المصاب ودفعته إلى معالجتها. ولكن ماذا نفعل إذا كانت هذه الأمراض لا يُحسّ بآلامها رغم خطورتها؟
إنّ مرض الغرور والأنانية، من الأمراض التي لا تظهر آلامها وهي ليس فقط غير مصحوبة بالألم، بل تتّسم بظاهر يبعث على التلذّذ. إذ إنّ مجالس الغيبة والنميمة قد تكون محبّبة!
فالإنسان يشعر مع حبّ النفس وحبّ الدنيا، وهما مصدر جميع الذنوب، بلذّة ونشوة. فإذا ما ابتُلي الإنسان بحبّ الدنيا واتّباع الهوى، واستحوذ حبّ الدنيا على قلبه، فإنّه يتألّم من كلّ شيء عدا الأمور الدنيوية، ويُعادي - والعياذ بالله - الله وعباده والأنبياء والأولياء وملائكة الله، ويحسّ بالحقد والبغضاء تجاههم.
وحينما يأتي أجله وتأتي ملائكة الله لتتوفّاه يشعر بالاستياء الشديد وينفر منهم، لأنّهم يريدون أن يُبعدوه عن محبوبته (الدنيا والأمور الدنيوية). ولذلك يُبغضهم وينفر منهم، وربما يخرج من هذه الدنيا وهو عدوّ لله تعالى.
حدّثَ أحد الأكابر من أهالي قزوين رحمه الله فقال: "إنّه كان جالساً عند رأس شخص يحتضر فسمعه يقول: إنّ الظلم الذي ظلمني إيّاه الله تعالى لم يظلمني أحد مثله، فلقد بذلت مهجتي في تربية أولادي، وها هو يريد أن يُبعدني عنهم! فهل هناك ظلم أشدّ من هذا وأعظم؟".
اتّقوا الله.. اخشوا عاقبة الأمور... أفيقوا من غفلتكم... إنّكم لم تفيقوا بعد ولم تخطوا الخطوة الأولى. إنّ اليقظة تُمثّل الخطوة الأولى في السلوك.
الحذر من استفحال حبّ النفس والدنيا
إذا لم يُهذّب الإنسان نفسه، ولم يُعرض عن الدنيا ويُخرج حبّها من قلبه، فيُخشى عليه أن يترك الدنيا وقلبه مملوء بالحقد على الله وأوليائه وأن يواجه مثل هذا المصير المشؤوم.
هل حقاً إنّ هذا الإنسان الصلف هو أشرف المخلوقات، أم هو في الحقيقة أشرّ المخلوقات؟ يقول الله تعالى: (وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْر).
إنّ المستثنى في هذه السورة هم "المؤمنون" الذين عملوا الصالحات فحسب، و "العمل الصالح" هو الذي ينسجم مع الروح.
ولكن كثيراً من أعمال الإنسان كما ترون ينسجم مع الجسم دون أن يوجد من النواحي المذكورة في السورة المباركة عين أو أثر.
فإذا كان الأساس أن يُسيطر عليكم حبّ الدنيا وحبّ النفس ويحول دون إدراككم للحقائق والواقعيات، ودون أن يكون عملكم خالصاً لوجه الله تعالى، ويمنعكم عن التواصي بالحقّ والتواصي بالصبر، ويسدّ طريق الهداية أمامكم؛ فإذا كان هذا الأساس فستبوؤون بالخسران المبين وتكونون ممّن خسر الدنيا والآخرة. لأنّكم أضعتم شبابكم وحُرمتم من نعم الجنّة ونعيم الآخرة، وأضعتم دنياكم وآخرتكم.
احذروا أن يستفحل لا سمح الله حبّ الدنيا وحبّ النفس شيئاً فشيئاً في نفوسكم، ويصل بكم الأمر إلى أن يتمكّن الشيطان من سلب إيمانكم؛ إذ يُقال إنّ كلّ جهود الشيطان تتكرّس لسرقة الإيمان وسلبه.
إنّ كلّ جهود إبليس ومساعيه مكرّسة لاختطاف إيمان الإنسان. فلم يُقدّم لكم أحد تعهّداً أو مستنداً ببقاء إيمانكم، فما أدراكم لعلّه إيمان مستودع يتمكّن الشيطان في النهاية من سلبه منكم، فتخرجون من الدنيا بعداوة الله وأوليائه.. عُمْرٌ قضيتموه تتنعّمون بالنعم الإلهية وتجلسون على مائدة الإمام صاحب الزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف وفي النهاية تُفارقون الحياة عديمي الإيمان، والعياذ بالله، وتُعادون وليّ نعمتكم.
وعليه فإذا كانت لديكم علاقة بالدنيا ومحبّة لها، فحاولوا بكلّ جهدكم أن تقطعوا هذه العلائق. إنّ هذه الدنيا بكلّ زخارفها وبهارجها، أحقر من أن تستحقّ المحبّة، فكيف إذا ما كان الإنسان محروماً حتى من هذه المظاهر؟ فماذا تملكون أنتم من الدنيا حتّى تنشدّ قلوبكم إليها؟...
وإذا افترضنا أنّ لكم من الدنيا ما للمرفّهين والمترفين، فإنّكم ستقضون عمركم باللذائذ ثم ترون عند انتهاء العمر أنّ كلّ ذلك ليس أكثر من حلم جميل سرعان ما انقضى، بيد أنّ تبعاته ومسؤوليّاته سوف تبقى تلاحقكم وتأخذ بخناقكم دوماً.
معرفة حقيقة الدنيا
فما قيمة هذه الحياة السريعة الفناء الحلوة الظاهر - هذا إذا انقضت دونما غصص - في مقابل العذاب الدائم؟!
إنّ عذاب أهل الدنيا يكون أحياناً غير متناهٍ؛ هذا فضلاً عن أنّ أهل الدنيا يتصوّرون أنّهم قد ملكوا الدنيا واستمتعوا بجميع مزاياها ومنافعها، إلّا أنّهم مخطئون وغافلون. إنّ كل واحد ينظر إلى الدنيا من نافذة محيطه وبيئته، ويتصوّر أنّ الدنيا هي كما يرى.
بيد أنّ هذا العالَم أوسع من أن يستطيع الإنسان أن يتصوّره ويتمكّن من اكتشافه وسبر أغواره. وقد ورد في الحديث الشريف عن هذه الدنيا، أنّ الله تبارك وتعالى: (ما نظر إليها نظرة رحمة).
وعليه ينبغي لنا أن نتعرّف إلى حقيقة ذلك العالَم الذي ما نظر إليه الله تعالى نظرة رحمة.. وما هو "معدن العظمة"3 الذي دُعي إليه الإنسان، وما هي حقيقته. إنّ الإنسان أصغر من أن يُدرك حقيقة "معدن العظمة".
إنّكم إذا أخلصتم نواياكم وأصلحتم أعمالكم وأخرجتم من قلوبكم حبّ النفس وحبّ الجاه، فإنّ الدرجات الرفيعة والمقامات العالية قد أُعدّت لكم وهي في انتظاركم.. وعليه إذا كانت لديكم علاقة بالدنيا ومحبّة لها، فحاولوا بكلّ جهدكم أن تقطعوا هذه العلائق.
إنّ الدنيا وما فيها بكلّ بهارجها وزخارفها لا تُساوي ذرّة من المقام الذي أُعدّ لعباد الله الصالحين. فجدّوا واجتهدوا لبلوغ هذه المقامات السامية.
وإذا ما استطعتم فابنوا أنفسكم واسموا بها إلى درجة لا تعبؤون معها حتّى بهذه المقامات العالية والدرجات الرفيعة. لا تعبدوا الله تعالى من أجل نيل هذه الأمور، بل اعبدوه لأنّه أهل للعبادة، اسجدوا لله وعفِّروا جباهكم بالتراب، حينها تخترقون حجب النور وتصلون إلى معدن العظمة.
فهل بمقدوركم أن تُحقّقوا هذه المكانة والمنزلة من خلال أعمالكم هذه وهذا الطريق الذي تسلكونه؟
هل تتصوّرون أنّ النجاة من عقاب الله تعالى واجتياز العقبات المهولة والتخلّص من نار جهنّم، تتحقّق بهذه السهولة؟
هل تتصوّرون أنّ بكاء الأئمة الأطهار ونحيب الإمام السجّاد عليه السلام هو من أجل تعليمنا؟
إنّهم رغم منزلتهم العظيمة السامية ومقامهم الذي لا يُضاهى، كانوا يبكون من خشية الله تعالى، لأنّهم يعلمون مدى خطورة الطريق الذي سيجتازونه. كانوا مطّلعين على المشاكل والصعوبات التي تعترض اجتياز الصراط. هذا الصراط الذي يُمثّل أحد طرفيه الدنيا وطرفه الآخر الآخرة.
كانوا مطّلعين على عوالم القبر والبرزخ والقيامة وعقباتها الكأداء, لذلك لم يكن يقرّ لهم قرار، وكانوا دائماً يلجؤون إلى الله ويدعونه للنجاة من هول يوم القيامة.
فماذا أعددتم أنتم لهذه العقبات الكأداء والعقوبات التي لا تُطاق، وأيّ طريق نجاة اخترتم؟
متى تريدون أن تهتمّوا بأنفسكم وتعملوا على تهذيبها وإصلاحها؟
اغتنام فرصة الشباب
إنّكم الآن في ريعان الشباب، وقادرون على التحكّم بقواكم ولم يدبّ الضعف بعد إلى أبدانكم، فإذا لم تُفكّروا الآن بتزكية أنفسكم وبناء ذواتكم فكيف ستتمكّنون من ذلك غداً عندما يتغلّب الضعف عليكم ويُسيطر الوهن، وتفقدون العزم وتضمحلّ فيكم الإرادة، فيكون ثقل الذنوب قد زاد من ظلمة القلب، عندها كيف يتسنّى لكم بناء أنفسكم وتهذيبها؟
إنّ كلّ نَفَسٍ تتنفّسونه، وكلّ خطوة تخطونها، وكلّ لحظة تنصرم من أعماركم، تزيد من صعوبة إصلاحكم أنفسكم، وربّما زادت أيضاً من ظلمة القلب والتباهي والغرور.
فكلّما تقدّم العمر بالإنسان ازدادت هذه الأمور التي تتعارض مع سعادته، وضعفت القدرة على الإصلاح. فإذا بلغتم مرحلة الشيخوخة فمن الصعب أن تُوفّقوا لاكتساب الفضيلة والتقوى.
ليس بمقدوركم أن تتوبوا، لأنّ التوبة لا تتحقّق بمجرّد لفظة أتوب إلى الله، بل تتوقّف على الندم والعزم على ترك الذنوب.
وإنّ الندم والعزم على ترك الذنوب لن يحصلا للذين أمضوا عمراً في الغيبة والكذب وابيضّت لحاهم على المعصية والذنوب. فمثل هؤلاء يظلّون أسارى ذنوبهم إلى آخر أعمارهم.
فليتحرّك الشباب قبل أن يداهمهم المشيب. لقد بلغنا هذه المرحلة ونحن أعلم بمعاناتها ومصائبها.. إنّكم ما دمتم في مرحلة الشباب تستطيعون أن تفعلوا كلّ شيء.
فما دمتم تملكون عزيمة الشباب وإرادة الشباب، باستطاعتكم أن تتخلّصوا من أهواء النفس ورغباتها الحيوانية.
ولكن إذا لم تُبادروا إلى ذلك، ولم تُفكروا بإصلاح أنفسكم وبنائها، فسوف يكون ذلك ضرباً من المحال عندما تبلغون مرحلة الهرم.. فكِّروا بأنفسكم ما دمتم شباباً ولا تنتظروا إلى أن تُصبحوا شيبة ضعافاً عاجزين.
إنّ قلب الشباب رقيق وملكوتيّ، ودوافع الفساد فيه ضعيفة. ولكن كلّما كبر الإنسان استحكمت في قلبه جذور المعصية إلى أن يُصبح استئصالها من القلب أمراً مستحيلاً. كما ورد في الحديث الشريف عن أبي جعفر عليه السلام أنّه قال: "ما من عبد إلّا وفي قلبه نكتة بيضاء، فإذا أذنب ذنباً خرج في النكتة نكتة سوداء فإن تاب ذهب ذلك السواد، وإن تمادى في الذنوب، زاد ذلك السواد حتى يُغطّي البيضاء، فإذا تغطّى البياض لم يرجع صاحبه إلى خير أبداً"4.
إنّ إنساناً من هذا النوع قد لا يمرّ عليه يوم أو ليلة دون أن يعصي الله تعالى، وحينها يكون من الصعب أن يرجع قلبه في سن الشيخوخة إلى حالته الأولى.
فإذا لم تُصلحوا أنفسكم - لا سمح الله - وخرجتم من الدنيا بقلوب سوداء وعيون وآذان وألسنة ملوّثة بالذنوب، فكيف ستُقابلون الله تعالى؟ كيف ستردّون هذه الأمانات الإلهية التي استودعكم الله إيّاها بمنتهى الطهارة والبراءة، مدنّسة بالقذارة والرذالة؟
هذه العين وهذه الأذن اللتان هما تحت تصرّفكم، وهذه اليد وهذا اللسان اللذان تحت سلطتكم. وهذه الأعضاء والجوارح التي تعيشون معها، كلّها أمانات الله سبحانه وتعالى، وقد منحكم الله إيّاها في غاية السلامة والطهارة. فإذا ابتُليَتْ بالمعاصي فسوف تتلوّث، وإذا تلوّثت بالمحرّمات فسوف تجد طريقها إلى الرذالة.
وآنذاك عندما تُريدون إعادة هذه الأمانة فقد تُسألون: أهكذا تُحفظ الأمانة؟! أهكذا كان القلب عندما أُعطي إليكم؟! العين التي استودعناكم إيّاها أهكذا كانت؟! وسائر الأعضاء والجوارح التي جعلناها تحت تصرّفكم، هل كانت هكذا ملوّثة وقذرة؟! بماذا ستُجيبون عن هذه الأسئلة؟ وكيف ستواجهون الله الذي خنتم أماناته إلى هذا الحدّ من الخيانة؟
إنّكم الآن شباب، وقد قرّرتم أن تفنوا شبابكم في هذا الطريق الذي لن ينفعكم دنيوياً بما يستحقّ الذكر. فإذا أمضيتم أوقاتكم الثمينة هذه وقضيتم ربيع شبابكم في طريق الله ومن أجل هدف مقدّس، فإنّكم ليس فقط لم تخسروا شيئاً بل ستربحون الدنيا والآخرة.
ولكن إذا ما استمرّت أوضاعكم على هذا المنوال الذي هي عليه الآن، فإنّكم تُتلفون شبابكم وتهدرون خيرة سنوات عمركم، وستكونون مسؤولين أعظم مسؤولية عند الله تعالى في عالَم الآخرة.
علماً أنّ جزاء أعمالكم الفاسدة والمفسدة هذه لا ينحصر بالعالَم الآخر، بل إنّكم سترون أنفسكم في هذه الدنيا وقد أحاط بكم البلاء من كلّ جانب، وسُدّت عليكم الآفاق وضُيِّق الخناق.
ففكّروا قبل أن تضيع الفرصة، وقبل أن يستولي الأعداء على جميع شؤونكم.. فكّروا وانتبهوا وتحرّكوا...
ففي المرحلة الأولى اهتمّوا بتهذيب النفس وتزكيتها، وإصلاح ذات بينكم. خذوا بوسائل العصر.. نظّموا أموركم، وابسطوا النظام والانضباط.. هذّبوا أنفسكم، وتجهّزوا واستعدّوا للحيلولة دون وقوع المفاسد التي يُمكن أن تعترضكم.